وَقَالَ الإِمام ابن القيم رحمه الله تعالى فِي "الهدي": وقد اختلف الفقهاء فِي الفيء، هل كان ملكاً لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يتصرّف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكاً له؟ عَلَى قولين فِي مذهب أحمد وغيره. والذي تدلّ عليه سننه، وهديه أنه كان يتصرّف فيه بالأمر، فيضعه حيث أمره الله، ويقسمه عَلَى منْ أُمر بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرف فيه تصرف المالك بشهوته، وإرادته، يُعطي منْ أحبّ، ويمنع منْ أحبّ، وإنما كان يتصرّف فيه تصرف العبد المأمور، يُنفّذ ما أمره به سيّده ومولاه، فيُعطي منْ أمر بإعطائه، ويمنع منْ أمر بمنعه، وقد صَرَّحَ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بهذا، فقال: "والله إني لا أعطي أحدًا، ولا أمنعه، إنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت"، فكان عطاؤه ومنعه وقسمه بمجرّد الأمر، فإن الله سبحانه خيّره بين أن يكون عبدًا رسولا، وبين أن يكون مَلِكًا رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولا.
والفرق بينهما أن العبد الرسول لا يتصرف إلا بأمر سيّده ومُرسله، والملِك الرسول له أن يُعطي منْ يشاء، ويَمنع منْ يشاء، كما قَالَ تعالى للملك الرسول سليمان عليه السلام: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]. أي أعط منْ شئت، وامنع منْ شئت، لا نُحاسبك، وهذه المرتبة التي عُرِضت عَلَى نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم، فرغِب عنها إلى ما هو أعلى منها، وهي مرتبة العبودية المحضة التي تصرف صاحبها فيها مقصورٌ عَلَى أمر السيّد فِي كلّ دقيق وجليل.
والمقصود أن تصرفه فِي الفيء بهذه المثابة، فهو ملك يُخالف حكم غيره منْ المالكين، ولهذا كان يُنفق مما أفاء الله عليه، مما لم يوجِف المسلمون عليه بخيل، ولا ركاب عَلَى نفسه، وأهله نفقة سنتهم، ويجعل الباقي فِي الكُرَاع والسلاح، عُدّة فِي سبيل الله عزّ وجلّ، وهذا النوع منْ الأموال هو السهم الذي وقع فيه بعده فيه منْ النزاع ما وقع إلى اليوم.
فأما الزكوات، والغنائم، وقسمة المواريث، فإنها مُعيَّنَةٌ لأهلها, لا يشركهم غيرهم فيها، فلم يُشكل عَلَى ولاة الأمر بعده منْ أمرها ما أشكل عليهم منْ الفيء، ولم يقع فيها منْ النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكال أمره عليهم، لما طَلَبت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميراثها منْ تركته، وظنت أنه يورث عنه ما كان ملكاً له كسائر المالكين، وخفي عليها رضي الله تعالى عنها حقيقة الملك الذي ليس مما يورث عنه، بل هو صدقةٌ بعده، ولما علِم ذلك خليفته الراشد البارّ الصّدّيق، ومن بعده منْ الخلفاء الراشدين، لم يجعلوا ما خلفه منْ الفيء ميراثًا يُقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى عليّ والعبّاس، يعملان فيه عملَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى تنازعا