(المسألة الخامسة): ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رُخصة فيه، مثل أن يُكره على السجود لغير اللَّه، أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم، أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزنى، وشرب الخمر، وأكل الربا. يُروى هذا عن الحسن البصريّ، وهو قول الأوزاعيّ، وسُحنُون من المالكيّة. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للأسير: اسجُد لهذا الصنم، وإلا قتلتك، فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة، فليسجُد، وتكون نيّته للَّه تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد، وإن قتلوه.
والصحيح أنه يسجد، وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ؛ ففي "الصحيح" عن ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما - قال: "كان رسول اللَّه - صلى اللَّه تعالى عليه وسلم - يصلّي، وهو مقبلٌ من مكة إلى المدينة على راحلته، حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، الآية [البقرة: 115]. وفي رواية: "ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة". فإذا كان هذا مباحًا في السفر في حالة الأمن؛ لتعب النزول عن الدّابّة للتنفّل، فكيف بهذا؟.
واحتجّ من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه -: ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلّمًا به. فقصر الرخصة على القول، ولم يذكُر الفعل، وهذا لا حجّة فيه؛ لأنه يحتمل أن يجعل الكلام مثالًا، وهو يريد أن الفعل في حكمه.
وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء، إذا أسرّ الإيمان. رُوي ذلك عن عمر ابن الخطّاب، ومكحول، وهو قولُ مالك، وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أُكره على شرب الخمر، وترك الصلاة، أو الإفطار في رمضان، أن الإثم عنه مرفوع. ذكره القرطبيّ (?).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا القول هو الحقّ؛ لدلالة النصوص السابقة عليه، وأما الاحتجاج بأثر ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - المذكور، ففيه نظر لا يخفى؛ لأن أثر الصحابة لا تكون حجةً يُدفع بها ما يدلّ عليه ظاهر الكتاب والسنة، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): أجمع العلماء على أن من أُكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بجَلد، أو غيره، ويَصبر على البلاء الذي نزل به،