(قَالَ) - صلى اللَّه عليه وسلم - (لَا) أي لا تخرجن معي إلى الجهاد، وإن كان فضله أكثر من غيره من الأعمال؛ لأن ذلك في حقّ الرجال، لا في حقّكنّ.
(وَلَكُنَّ أَفضلُ الْجِهَادِ) وفي نسخة: "أحسن الجهاد". قال في "الفتح": اختلف في ضبط "لكن"، فالأكثر بضم الكاف خطابًا للنسوة. قال القابسيّ: وهو الذي تميل إليه نفسي. وفي رواية الحمّويّ: "لَكِن" بكسر الكاف، وزيادة ألف قبلها، بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة؛ لأنه يشتمل على إثبات فضل الحجّ، وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسمّاه جهادًا؛ لما فيه من مجاهدة النفس.
فقوله: "لكنّ" على الأول جارّ ومجرور خبر مقدّم، و"أفضل الجهاد" مبتدأ مؤخّر، و (أجمله) عطف عليه، وعلى الثاني فهو بتخفيف النون، أو تشديدها حرف استدراك، و"أفضل" مبتدأ خبره قوله (حَجُّ الْبَيْتِ) وقوله (حَجُّ مَبْرُورٌ) بدل منه.
والحديث أخرجه البخاريُّ بألفاظ، ففي "باب جهاد النساء"، من "كتاب الجهاد والسير": قالت استأذنت النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - في الجهاد، فقال: "جهادكنّ الحجّ". وفي رواية له في الباب المذكور: سأله أزواجه عن الجهاد؟، فقال: "نعم الجهاد الحجّ". ورواه في "باب فضل الحجّ المبرور" من أوائل "كتاب الحجّ"، وأول "الجهاد" بلفظ: قالت: يا رسول اللَّه نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور"، ورواه بنحوه أيضًا في "باب حجّ النساء"، وزاد: "فقالت عائشة: فلا أدع الحجّ بعد إذ سمعت هذا من رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -". وراه ابن ماجه بلفظ: قلت: يا رسول اللَّه على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه، الحجّ والعمرة". وفي رواية للبيهقيّ: قالت: استأذنه نساؤه في الجهاد، فقال - صلى اللَّه عليه وسلم -: "يكفيكنّ الحجّ، أو جهادكنّ الحجّ".
قال ابن بطّال: دلّ حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء، وأنهنّ غير داخلات في قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، وهو إجماع، ولكن ليس في قوله: " جهادكنّ الحجّ" أنه ليس لهنّ أن يتطوّعن بالجهاد، وإنما فيه أن الحجّ أفضل لهنّ، وإنما لم يكن الجهاد عليهنّ واجبًا؛ لما فيه من مغايرة المطلوب منهنّ من الستر، ومجانبة الرجال، والحجُّ يمكنهنّ فيه مجانبة الرجال، والاستتار، فلذلك كان الحجّ أفضل لهنّ من الجهاد.
قال: وزعم بعض من ينتقص عائشة في قصّة الجمل أن قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] يقتضي تحريم السفر عليهنّ. قال: وهذا الحديث يردّ عليهم؛ لأنه قال: "لكن أفضل الجهاد"، فدلّ على أن لهنّ جهادًا غير الحجّ، والحج أفضل منه انتهى.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "لا" في جواب قولهنّ "ألا نخرج، فنجاهد معك؟ " أي ليس واجبًا عليكنّ، كما وجب على الرجال، ولم يرد بذلك تحريمه