(رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلمَ، يُوَسِّعُهَا، فَلَا تَتَّسِعُ) وفي الرواية التالية: "وسمعت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - يقول: "فيجتهد أن يوسّعها، فلا تتّسع". وفي رواية عند الشيخين: "فأنا رأيت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - يقول بأصبعه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسّعها، ولا تتّسع". ووقع عند أحمد من طريق ابن إسحاق، عن أبي الزناد في الحديث: "وأما البخيل، فإنها لا تزداد عليه إلا استحكامًا".
(قَالَ: طَاوُسٌ) يعني أن ما تقدّم هو رواية الأعرج، عن أبي هريرة - رضي اللَّه تعالى - عنه، وأما طاوس، فقال في روايته (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) - رضي اللَّه تعالى عنه - (يُشِيرُ بِيَدِهِ) وفي نسخة: "بيديه". والظاهر أن هذه الجملة حال من محذوف، تقديره: يقول: رأيت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، يشير بيده". يوضّح ذلك رواية مسلم من طريق إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، بلفظ: "قال: فأنا رأيت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، يقول بإصبعه في جيبه، فلو رأيته يوسّعها، ولا تَوَسّع" (وَهُوَ يُوَسِّعُهَا) جملة في محلّ نصب على الحال، والواو حاليّة، فهو من الأحوال المترادفة، أو المتداخلة، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، فيكون معطوفًا على الحال الأولى (وَلَا تَتَوَسَّعُ) يعني أنه يحاول في توسيعها، ولكنّها لا تقبل التوسيع؛ لاستحكام تقلّصها، وثبوتها في مكانها.
قال التوربشتيّ -رحمه اللَّه تعالى-: معنى الحديث أن الجواد الموفّق إذا همّ بالصدقة اتّسع لذلك صدره، وطاوعته نفسه، وانبسطت بالبذل والعطاء يداه، كالذي لبس درعًا، فاسترسلت عليه، وأخرج منها يديه، فانبسطت حتى خلصت إلى ظهور قدميه، فأجنّته، وحصنته. وأنّ البخيل إذا أراد الإنفاق حَرِجَ به صدره، واشمأزّت عنه نفسه، وانقبضت عنه يداه، كالذي أراد أن يستجنّ بالدرع، وقد غُلّت يداه إلى عنقه، فحال ما ابتُلي به بينه وبين ما يبتغيه، فلا يزيده لبسها إلا ثقلًا، ووبالًا، والتزامًا في العنق، والتواءً، وأَخْذًا بالترقوة انتهى.
وقال في "الفتح": قال الخطّابيّ وغيره: وهذا مثلٌ ضربه النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - للبخيل والمتصدّق، فشبّههما برجلين أراد كلّ واحد منهما أن يلبس درعًا، يستتر به من سلاح عدوّه، فصبّها على رأسه ليلبسها، والدرعُ أول ما تقع على الصدر، والثديين إلى أن يُدخل الإنسان يديه في كمّيها، فجَعَلَ المنفقَ كمن لبس درعًا سابغةً، فاستَرسَلَت عليه، حتى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله: "حتّى تعفوَ أثره": أي تستر جميع بدنه. وجَعَلَ البخيلَ كمثل رجل غُلَّت يداه إلى عنقه، كلّما أراد لبسها، اجتمعت في عنقه، فلزمت ترقوتَهُ، وهذا معنى قوله: "قلَصَت": أي تضامّت، واجتمعت.
والمراد أنّ الجواد إذا هَمَّ بالصدقة انفسح لها صدره، وطابت نفسه، فتوسّعت في