تكرار الكلام والجمل المفسِّرة الموضِحة، سمةٌ غالبة في أسلوب عبد القاهر الذي اختطَّ لنفسه هذا المنحى انطلاقاً من فكرة الفلسفي الذي يسعى دائماً إلى كشفِ الحقيقة. فما باله وقد نَدَب نفسه لتثقيف أبناء عصره، وتفتيح كوى الأذهان نحو علم لم يكن له وجود نظاميِّ من قبل ... ألا وهو علم المعاني الذي نبتَ على جذوع علم النحو نباتَ إخصابٍ وإثمار، لا نباتاً طفيلياً، فإذا به يستقل عن أصله وجوهر وجوده، ليلتحق بعلوم البلاغة ويتصدر هذه العلوم، بعد أن انصرف النحو بأكبر قدرٍ من عنايته، إلى قضايا الإعراب. الأمر الذي حدا بعبد القاهر إلى إعادة العلاقة إلى أصلها وطبيعتها؛ وحسَناً فعلَ لأنه ما انفكَّ في مختلف فصول الكتاب يربط بإحكام بين "المعاني" والنحو ربطاً لا نكاد نشعر باستقلال الواحد عن الآخر، فنَسوغُ النحوَ، من جهة، ونفهم علم المعاني، من جهة ثانية. وبمعنى آخر أضفى الجرجاني على الخطاب البلاغي مسحة من الأصولية العربية التي تعبِّر أفضل تعبير عن غنى القدماء وإقبالهم على كل ما يؤدي إلى الينابيع، واعتبار علوم العربية وحدةٌ متكاملة يؤدي بعضُها إلى بعض ويكمل بعضُها بعضاً: فلا بلاغة من غير "معان"، ولا "معاني" من غير نحو، ومن النحو إلى الصرف، ومنه إلى فقه اللغة، انتهاءً بلغة العرب المشروحة في المعاجم والموسوعات اللغوية: حلقةٌ أو قل: سلسلةٌ مترابطة منتظمة في عِقْدٍ، إن فُقدت منه حبة أو جوهرة، انفَرَط العقد، واختلَّ المسار.
ولم يكتف علاَّمتنا بهذا الإنجاز التاريخي، بل تفوق على نفسه، فوق تفوقه على علماء زمانه، فأوجد ما سمِّي النقد الذوقي الجمالي الذي جمعه إلى قواعد النحو وأساسيات البلاغة بمختلف علومها وتفرعاتها، من غير فصل أو مفاضلة ... فكان من الفطرة السليمة والطبع النقي والذوق النادر ما جعله يستنكف عن جفاء الصنعة الكلامية وأسلوبها الفلسفي الذي ساد عصره.