ليس بخفيٍّ على مَنْ له ذوقٌ، أنه لو أتى موضعُ الظاهرِ في ذلك كله بالضمير فقيل: (وضيفُ عمروِ وهو يسهران معاً)، و (ربما أمرَّ مذاقُ العودِ وهو أخضر)، و (أهلُ الدهر دونك وهو) لعُدِمَ حُسْنٌ ومزيةٌ لا خفاءَ بأمرهما، ليس لأنَّ الشعرَ يَنكَسِرُ، ولكنْ تُنْكِره النفسُ. وقد يُرى في بادىء الرأي أنَّ ذلك من أجْل اللَّبْسِ، وأنكَ إذا قلتَ: (جاءني غلامُ زيدٍ وهو) كان الذي يقَعُ في نفس السامع أنَّ الضميرَ للغلام، وأنكَ على أن تجيء له بخَبر؛ إلا أنَّه لا يستمرُّ من حيثُ إنا نقول: (جاءني غلمانُ زيدٍ وهو)، فتَجِدُ الاستنكارَ ونبُوَّ النفسِ، مع أنْ لا لَبْسَ مثْلَ الذي وجدْناه. وإذا كان كذلك وجَب أن يكون السببُ غيرَ ذلك. والذي يوجُبِه التأمل أن يُردَّ إلى الأصْل الذي ذكره الجاحظ من أنَّ سائلاً سأل عن قولِ قيس بن خارجة "عندي قِرى كلِّ نازلٍ، ورضى كلِّ ساخطٍ، وخُطبةٌ مِنْ لدنْ تَطلعُ الشمسُ إلى أنْ تغرُبَ، آمرُ فيها بالتواصُل، وأنهى فيها عن التقاطع" فقال: أليس الأمرُ بالصِّلة هو النهيُ عن التقاطع؟ قال: فقال أبو يعقوب: أما علمتَ أنَّ الكنايةَ والتعريضَ، لا يَعملان في العقولِ عملَ الإفصاح والتكشيف؟ وذكرتُ هناك أنَّ لهذا الذي ذُكِر من أنَّ للتصريح عملاً لا يكون مثلَ ذلك العملِ للكناية كان لإعادة اللفظ في قوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105]، وقوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] عملٌ لولاها لم يَكنْ. وإذا كان هذا ثابتاً معلوماً فهو حكْم مسألتنا. ومن البيِّنِ الجليِّ في هذا المعنى - وهو كبيت ابن الرومي سواءٌ لأنه تشبيهٌ مثْلُه - بيتُ الحماسة [من الهزج]:

شَدَدْنا شَدَّةَ الليثِ ... غدا والليثُ غضبانُ

ومن الباب قولُ النابغة [من الرجز]:

نفْسُ عصامٍ سوَّدتْ عِصاما ... وعلَّمَتْهُ الكرَّ والإقداما

لا يخفى على مَنْ له ذوقٌ حسَنٌ هذا الإظهارَ، وأنَّ له موقعاً في النفس وباعثاً للأرْيحية، لا يكون إذا قيل: (نفسُ عصامٍ سودته) شيء منه البتة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015