"هذا فنّ من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون الفصاحة صفةً للّفظ من حيث هو لفظ: لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تُدرك بالسمع، أو تكون صفة فيه معقولةً تُعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفةً في اللفظ محسوسة؛ لأنها لو كانت كذلك، لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحاً. وإذا بطلَ أن تكون محسوسةً، وجبَ الحكْمُ ضرورةً بأنها صفة معقولة، وإذا وجبَ الحكم بكونها صفةً معقولة، فإنّا لا نعرف صفةً يكون طريقُ معرفتها العقلَ دون الحِسّ، إلاَّ دلالته على معناه؛ وإذا كان كذلك، لزم منه العلمُ بأنَّ وصْفَنا اللفظ بالفصاحة وصفٌ له، من جهة معناه، لا من جهة نفسه. وهذا ما يبقى لعاقلٍ معه عذرٌ في الشك، واللهُ الموفق للصواب".

أرأيتَ إلى هذا المنهج العقلاني الدقيق المطَّرد، وقد اعتمد الاستنتاجَ فيْه عندما انطلق من مقولته - في السطر الأول - "بطلان أن تكون الفصاحة صفةً للفظ كلفظٍ"، ثم راح يبسط نظرته ويعرض لاحتمالٍ ثم يستنتج، بصورة تتابعية موضوعيةٍ لا خلل فيها ولا التواء، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه وقد استراح قلقُه وابتردت طاقاتُه في البحث والتدليل، كما استراح معه القارئ واستشعر القناعة اللازمة.

أثبت الجرجاني، أنه، في معظم ما شرح وأوضح، وبرهن ودلَّل وعلَّل ... كان في وضع الباحث المنهجي، والمحاضر الممتاز يقدِّم معارفَه لطلبته بكل صبر ورويَّة، متوخياً على الدوام الإِقناعَ والإفادة، "متخوفاً" أو قل: متوجِّساً من أن يكون كلُّ ما جهد في سبيله، عرضَةً للضياع في مهب الريح، حتى وصل به الأمر في مطلع أحد الفصول، في باب اللفظ والنظم، إلى تكرار التنبيه ومعاودة وصاياه المتتابعة، في مطلع كل فصل ونهاية كل فقرة، كأنما هو في وادٍ والقارئ في وادٍ ... فكانت هذه الكلمات التي تزخر باليقظة والإلحاف والتأكيد على كل ما يملك من مشاعر الحرص على سلامة المعارف التي يطرحها قائلاً:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015