وافقَ الجرجانيُّ الشاعرَ في الشطر الأول، بوجوب سَكْب الدمع مع الفراق، لكنه غالطه في مسألة الجمود قائلاً:
"إذا قال "لتجمدا" فكأنه قال: أحزنُ اليوم لئلاَّ أحزنَ غداً، وتبكي عيناي جهدهما لئلاَّ تبكيا أبداً؛ وغلط فيما ظنَّ؛ وذاك أنَّ الجمود هو أن لا تبكي العينُ، مع أنَّ الحال حالُ بكاء، ومع أنَّ العين يراد منها أن تبكي ويُشتكى من أن لا تبكي، ولذلك لا نرى أحداً يذكر عينه بالجمود إلاَّ وهو يشكوها ويذمُّها وينسبها إلى البخل، ويعدُّ امتناعها من البكاء تَرْكاَ لمعونة صاحبها على ما به من الهم ..
( ... ) وجملة الأمر أَنَّا لا نعلم أحداً جعل جمودَ العين دليلَ سرور وأمارةَ غبطة، وكنايةً عن أنَّ الحال حال فرح. فهذا مثالٌ فيما هو بالضدِّ مما شرَطوا من أن لا يكون لفظُه أسبقَ إلى سمعك، من معناه إلى قلبك، لأنك ترى اللفظ يصل إلى سمعك وتحتاج إلى أنْ تَخُبَّ وتُوضِعَ في طلب المعنى".
ربما لا أوافق شيخ البلغاء على نظرته التحليلية لجمود العينين ههنا - ذاكَ أن حالة الجمود والصورة التي رسمها ابن الأحنف، كامنتان في وجدان الشاعر ومخيِّلته، إذ قد يكون قصد إقامة معادلة متوازية بين البعد والقرب من جهة، والانسكاب والجمود من جهة ثانية، وأن الجمود حالة شخوصٍ واشتدادِ نظر تسمَّرَ إلى الأفق البعيد، حيث طيفُ الحبيب، أو إلى ما حوله ... لكنَّ أحداً لا يسعه الجدالُ في المنطق التحليلي الاستنتاجي الآسر الذي بسطه الشيخ عبد القاهر بكثير من دقة المُعَاينة وإحكام المُسَاءلة ...
إنَّ العقل عنده سيد الرقابة والتوجيه والحكم في العلاقات والاختيار والتنسيق، وترتيب المعاني وما يناسبها من الألفاظ. كيفما التفتَّ إلى سياق نظريته البلاغية وصياغة أصولها، وجدتَ العقلَ رأساً في ذلك، لا يتحول عن مساره أو يَخْبو له ضوءٌ لدى أية مناقشة أو محاجَّة. فهو لا يفتأ يذكر العقلاء في كل خلاصة أو استنتاج يعتمدهما في طرح آرائه، وبسط الأدلة والشواهد: حتى الفصاحةُ، عنده، لا تُدرك إلاَّ بالعقل: