تندرج كتابة عبد القاهر الجرجاني البلاغية بعامة، وكتاب دلائل الإعجاز بخاصة، تحت عارضة العقل والمنطق، لأن كل شيء عنده قائم على إبداء الرأي وبسطة والتمثيل له، أو العكس، معتمداً القياس والاستنتاج، محكِّماً عقله وتفكيره، معتمداً المبادئ المعرفية التي يحكم بها البلغاء الحقيقيون، وما يحصله من عيون الشواهد الأدبية، يسبقها أو يواكبها الشاهد القرآني المعجز.
فكان أحياناً مستقرئاً، يبحث في التفاصيل والجزئيات وصولا إلى خلاصة الرأي وزبدة النظرية ... وأحياناً مستنتجاً، يطرح الرأي، وينصب ميزان الحكم ثم يعرض مفاهيمه وشروحه في بوتقة العقلي المستمد من ثقافته الفكرية التأملية ومقاربته الأشياء، فضلاً عن المنطق اليوناني الأرسطي الذي تشرَّبتْ به طائفة كبيرة من علماء عصره؛ ولكنه خفَّف من جفاء المنطق ورصانة العقل بما اكتسبه من لطافة الذوق ورهافة الإحساس. لنقرأْ له دفاعه عن نظريته في أن الفصاحة لا تكون للفظ إلاَّ باعتبار معناه:
"إن القارئ إذا قرأ قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيَبْاً} [مريم: 4] فإنه لا يَجد الفصاحة التي تجدها إلاَّ من بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره؛ فلو كانت الفصاحة صفةً للفظ "اشتعل" لكان ينبغي أن يُحسَّها القارئ فيه حال نطقه به، فمحالٌ أن تكون للشيء صفةٌ، ثم لا يصح العلمُ بتلك الصفة إلاَّ من بعد عدَمِه. ومن ذا رأى صفةً يَعْرى موصوفُها عنها في حال وجوده، حتى إذا عُدِمَ صارت موجودةٌ فيه؟ وهل سمع السامعون في قديم الدهر وحديثه، بصفةٍ شرطُ حصولها لموصوفها أَنْ يُعدَم الموصوفُ؟ "
لا أغالي إذا قلت إِنَّ كل رأي صدر عن الجرجاني، وكل نظرية طرحها أو توصَّل إليها، إنما سلكَ في سبيلهما هذا المسلكَ القياسي الاستدلالي الاستقرائي،، في إطار من التحليل المنطقي والتفكير العقلاني ... بغض النظر عما يَؤُول إليه أو يستنتجه أو يؤسِّس عليه. ذاك مجال آخر يمكن فيه مناقشتُه وإخضاع ما يقول لميزان القناعة أو الرفض. إقرأ معي - إنْ شئتَ - مثالاً آخر؛ تحليله لبيت العباس ابن الأحنف، في بثَّ شجونه ومعاناته في إثر الحبيب:
سأَطلبُ بُعْد الدارِ عنكُمْ لِتَقْربوا ... وتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لِتَجْمُدا