ولقد غرس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة الصادقة في قلوب المهاجرين والأنصار، يوم وقف الأنصاري أمام أخيه المهاجر فقال: أخي! هذا مالي بيني وبينك، هذه دنياي! نصفُها لي ونصفها لك، هاتان زوجتاي! انظر إلى أحسنهما أطلقها وهي لك.
فالله أكبر! ما أعظم سلطان الإيمان على القلوب! والله أكبر! ما أعظم سلطان القرآن على القلوب! والله أكبر يوم استجابت! والله أكبر يوم أذعنت وأسلمت! يوم كان المسلم مسلماً مستسلماً لله منقاداً ذليلا طائعاً! يوم كان ذليلاً على المؤمنين، عزيزاً شديداً على الكفار وأعداء الدين، يوالي في الله رب العالمين، إخوته على نهج الإيمان والدين! يوم كان أولئك الأجيال يوم كان أولئك الأبطال يوم كان أولئك الرجال الذين زكاهم الكبير المتعال من فوق سبع سماوات.
وقف رجل من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء في ظلام الليل، في زمانٍ شديدٍ أَمْرُه فقال: يا رسول الله! إني مجهود -أي: بلغ بي الجوع والظمأ ما بلغ- فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين وزوجة من أزواجه -رضي الله عنهن أجمعين-: هل عندكم طعام؟ فأرسلت إليه: والله ما عندنا شيء إلا الماء، فلما رجع رسولُها أرسله إلى زوجة ثانية، فقالت: والله ما عندنا من شيء إلا الماء، فأرسله إلى الزوجة الثالثة، فقالت: والله ما عندنا شيء إلا الماء، حتى انتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -فصلوات ربي وسلامه عليه يوم خلا بيته من الطعام، ومُلِئ حكمةً وإيماناً من القرآن- فلما جاء الرسول من عند آخر زوجة وأخبره بأنه لا طعام، قام في أصحابه فقال: مَن يستضيف هذا أو يطعمه رحمه الله؟ فقام أبو طلحة، وأخذ بضيف النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى طعامه وطعام أهله وزوجه، وقرع الباب على تلك المؤمنة الصالحة فقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم -فرحَّبَتْ وابتهَجَتْ وسُرَّت- وقالت: والله ما عندنا من طعام إلا طعامي وطعامك وطعام الصبية، فقال لها: أطفئي السراج ونوِّمي الصبية، فلما أُطْفئ السراج ودنا الضيف إلى الطعام جعل أبو طلحة رضي الله عنه وأرضاه يتظاهر بالأكل، كأنه يأكل حتى أتى الضيف على الطعام كله، وبات أبو طلحة جائعاً، وباتت زوجه جائعة فلما غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -غدا إليه جائعاً، غدا إليه مُقْفِر الأحشاء طاوياً؛ ولكن غدا إليه بقلب يحب الله ورسوله، غدا إليه بإيمان، وببر وطاعة وإحسان، غدا إليه بالإيثار- ووقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، تهلَّل وجه النبي صلى الله عليه وسلم بالبشر والسرور فقال لـ أبي طلحة تلك البشارة العظيمة: (عجب الله من صنيعكما بضيفكما البارحة!) الله أكبر! ملك الملوك وجبار السماوات والأرض يعجب من الإيثار! يعجب من الأخوة الصادقة من الأنصار! يوم جاعت الأحشاء والأمعاء؛ ولكن مُلِئت القلوب بحب الله فاطر الأرض والسماء! عجب الله -والعجب صفة من صفاته كما يليق بجلاله وكماله- عجب الله من الإيمان! وعجب من التسليم والإذعان! وعجب من الصدق والبر والإحسان من أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه! وما هي إلا لحظات حتى ينزل جبريل من السماوات بثناء الله جل وعلا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها على ذلك الصادق الطاهر، وذلك الذي تبطن في قلبه الجواهر من تلك المعاني السامية، {وَالَّذِينَ تَبَوَّئُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
هنيئاً بهذه الشهادة! هنيئاً بمن شهد الله له بالإيثار! وشهد له بالصدق في المحبة والعبودية لله الواحد القهار! طبتَ وطاب غناك! وطبت وطاب ممشاك! وطبت وطاب بذلك لله جل جلاله! إنها المعاني الكريمة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبِ الصحابة؛ قلوبِ أولئك الأخيار من المهاجرين والأنصار، قال يوماً من الأيام للأنصار: (هلمُّوا أعطيكم مالاً من البحرين، فقالوا: لا والله حتى تقسمه بيننا وبين المهاجرين) يميناً وطئت بها الدنيا بالأقدام المؤمنة، أولئك الذين آمنوا، أولئك الذين صدقوا، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج من الدنيا إلا والصحابة قد تغلغل في قلوبهم هذا المعنى الكريم، تغلغل في قلوبهم حب المؤمنين، والتذلل لعباد الله المتقين، تغلغل في قلوبهم ذلك المعنى الذي أخبر الله بحب أهله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54].
فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والأخ يشد أزر أخيه، وفي طاعة الله يثبته ويواسيه.
توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم محافظون على الأخوة وعَهْدِها، محافظون على الأخوة وبِرِّها وودادِها، هذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه يقول: [والله إني لأدعو لسبعين من أصحابي؛ أسميهم رجلاً رجلاً في سجودي] هذا هو الحب الصادق، والحب في الله، والموالاة في الله يوم أن كانت الدنيا تحت أقدامهم.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: [أُهْدِي إلى رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأسُ شاة وهو جائع ومحتاج، فلما وضع الرأس بين يديه قال: اذهبوا به إلى فلان، فوالله إنه لأحوج إليه مني، فحُمِل ذلك الرأس إلى أخيه، فلما وُضِع أمامه نظر إليه والجوع يكويه فقال: اذهبوا به إلى فلان فوالله إنه لأحوج إليه مني، ثم انتقل إلى الرجل حتى عاد إلى الصحابي الأول، قال رضي الله عنه وأرضاه: سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتداولونه].
كانوا -يوم كانوا- يؤثرون الآخرة! كانوا وكأنهم في السفينة الماخرة إلى لقاء الله والبرزخ والدار الآخرة، فقد هانت عليهم الدنيا، وكان الإيمان في قلوبهم أسمى وأسنى وأعلى وأبهى من حطام الدنيا الزائل، ومتاعها الفاني الحائل.