ولقد غرس أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني الكريمة، والمعاني الجليلة في قلوب التابعين الأخيار، فهذا إمام من أئمتهم يقول: [والله لو جُمِعَت لي الدنيا في لقمة واحدة، وجاءني أخ في الله لوضعتها في فمه ولا أبالي].
وهذا علي زين العابدين؛ إمام من أئمة التابعين، وسيد من سادات العلماء المجتهدين، كان رحمه الله طيباً بن طيب بن طيب؛ علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين؛ عنه وعن أبيه وعن جده {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34].
يسمونه: زين العابدين؛ لِزَيْنِ عبادته، وكمال خشوعه بين يدي ربه.
كان إذا توضأ احمرَّ وجهُه واصفرَّ وتغيَّر، فقيل له ذات مرة: [ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ قال: ألا تدرون مَن أناجي؟! ألا تدرون مَن أقف بين يديه؟!] وهو الله جل جلاله.
وكان إذا أراد الحج والعمرة ولبس إحرامه فقال: [لبيك] خرَّ مغشياً عليه، وذات مرة قال: [لبيك! ثم خرَّ مغشياً عليه، ثم أفاق، فقال: لبيك! ثم خرَّ مغشياً عليه، فلما كان في الثالثة قيل له: ما هذا يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك!].
وكان حَيَّ القلب، نقيَّ العبادة، نقيَّ الجوهر رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الإمام الجليل كان إذا جنَّ الليل، حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام في شدة الظلام؛ ليشتري به رحمةَ الله جل جلاله، وكان يتَلَثَّم فلا يعرفه أحد، فلما توفي -رحمه الله- فَقَدَ أكثرُ مِن ستين بيتاً من بيوت المسلمين وضعفائهم رجلاً كان بالليل يطرق عليهم بالطعام.
هذا الإمام كان وحده -رحمه الله- يحمل الطعام على ظهره، فلما أُرِيْدَ تغسيلُه وتكفينُه جُرِّدَ من ثوبه، فانكشف ظهرُه، فإذا فيه أثر الأكياس التي كان يحملها في الظلام، رحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وسلامٌ على قلوب ضمَّت أشلاؤهم! وسلامٌ على قبور ضمَّت أجسادهم! يوم أن صدقوا مع الله جل جلاله، وباعوا الدنيا من أجل إخوانهم المسلمين، وكانوا أحبةً في الله والدين، فكانت الدنيا عندهم حقيرة ذليلة مهينة.
كان الواحد إذا لقي أخاه تلقاه والبشر على صفحات وجهه، والسرور على ظاهره، يشعره بالأخوة في الدين، وكان الإمام والعالم منهم لا يستطيع الواحد أن يعرفه بين الناس من التواضع وترك الرياء، رحمة الله عليهم أجمعين، وكانوا إذا دخل بعضهم على بعض أَكْرَموا وتنافسوا للخير وتسابقوا.
فهذا عبد الرحمن بن أبي ليلى، أدرك أكثر من مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عنه ابن أبي زياد: والله ما دخلنا عليه إلا حدثنا بأطيب الحديث، وأطعمنا بأحسن الطعام.
وكان الحسن البصري رحمه الله سيداً من سادات التابعين، فقد كان رحمه الله إذا دخل عليه أخوه قام فأكرمه بنفسه، وهو الإمام في العلم والورع.
كانوا مؤثِرِين للأخوة في الله والدين، وأحبة في الله متراحمين متواصلين متباذلين، يوم كان الإسلامُ وكان أهلُه، يوم كان القرآن دليلَهم، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامَهم وأمامَهم، يوم كانوا عاملين بكتاب الله، ثابتين بكلام الله، يوم وَصَفَهم الله بأنَّهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فكم من عيون منهم سَحَّت بالبكاء لبكاء عيون من المسلمين! أين هذه النماذج الكريمة؟! أين هذه الأمة الطاهرة البَرَّة الرحيمة؟! أين هذه القلوب العظيمة؟! أين هي من نماذجِ اليوم؛ يوم صاح الأيتام، وصاحت الأرامل، فلم تجد لها مغيثاً غير الله جل جلاله؟! أين هذه القلوب الرحيمة؟! أين هذه الأمة الكريمة؛ يوم قَطَّعَت الأرحام، فضلاً عن أخوة الإسلام، حتى اقتتل الرجلان على شبر من الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله! يوم سَبَّ المسلمُ أخاه، وانتهك عرضَه، واستباح غَيْبَتَه على متر أو مترين من الأرض، وإنا لله وإنا إليه راجعون! يوم أصبح الإسلام اسماً على الظواهر، بعيداً عن القلوب والجواهر، وأصبح العبد يوالي في الدنيا، ويعادي في الدنيا، فالناس بها عنده مراتب، نسأل الله السلامة والعافية من حال أهلها.