Q نرجو من شيخنا الكريم أن يعطينا بعض الأشياء عن حياة أبيه، وبعض المواقف! وهذه أمنية كل طالبِ علمِ سَمِعَ بأبيكم ويريد أن يعرف هذا الشيخ العالم الرباني، وجزاكم الله خيراً؟
صلى الله عليه وسلم والله إن هذا سؤالٌ مفاجئ، والمشكلة أن الشخص إذا فوجئ بالسؤال لا يكون مستحضراً، فالله المستعان.
من أهم الأمور التي كنتُ ألمسها في الوالد -رحمة الله عليه-: قضية الإخلاص: فقد كان أهم ما يعتني به -عليه رحمة الله- قضية إخلاص العمل لله جل جلاله، وأذكر أني ذات مرة راجعتُه في مسألة، وكان فيها دَخْلٌ من الدنيا؛ فقال لي: يا بني! إن الله عليم بذات الصدور.
واللهِ إن هذه الكلمة إلى الآن في قلبي، كلَّما وجدتُ شيئاً مِن دَخْل الدنيا تذكرتُ قوله: إن الله عليم بذات الصدور، فقال: بذات ولم يقل: بالصدور: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43] أي: بحقائق ما فيها من إرادةِ وَجْهِهِ، أو إرادةِ الدنيا.
كذلك مما أذكره فيه -رحمة الله عليه-: كثرة العبادة الخفية: فقد كان يجلس مع الناس ولا تَظْهَر عليه كثرة العبادة؛ ولكن ما إن يخلو بجوف الليل حتى أسمع نشيجه وبكاءه من غرفته رحمة الله عليه.
وأذكر أنه كان كثير القيام في الليل: حتى إنني أذكر ذات مرة أنه كان هناك أحد المشايخ يستبعد أن يختم الشخصُ القرآنَ في ليلة، ويقول: إنه بعيد جداً.
فجئت إلى الوالد رحمه الله، وكنت حينها في السنة الثانية من الكلية، وقلت له: إن هناك مَن يستبعد ختم القرآن في ليلة، وأنا -في الحقيقة- قلت للشيخ: هذا ليس ببعيد -أي: أثناء إلقائه للمحاضرة-؛ لأن الشخص خلال ربع ساعة أو اثنتي عشرة دقيقة يكون قد انتهى من الجزء، هذا إذا كان في ليالي الشتاء، فمن الممكن أن يختم في ليلة واحدة.
فالشاهد أنني ذهبت إلى الوالد رحمة الله عليه فذكرت له ذلك.
فقال: هذا بسيط، ختم القرآن في ليلة بسيط، وهو خلاف السنة -فكما تعلمون أن السنة ألا يُخْتَم القرآنُ في أقل من ثلاث ليال-؛ لكن الشاهد أنه قال: هذا سهل جداً.
فما زلتُ به رحمة الله عليه، فقلت له: كأني أشكِّك، وكأني مع الشيخ إذْ يقول: إن هذا بعيد.
حتى قال لي: واللهِ يا بني! الحمد لله، مرَّت علي في بداية الطلب سنوات، لا أستفتح بعد العشاء بالقرآن إلا ويأتي السحر وأنا في آخر القرآن.
رحمة الله عليه.
وكان معروفاً عنه أنه ما كانت عنده صبوة إلى الحرام.
وكان أهم شيء عنده الوقت: حتى أنه كان في أيام الطلب -كما يذكر لي أحد كبار السن الموجودين الآن عن خالٍ له كان قريباً من الشيخ الذي ارتحل الوالد لأخذ العلم عنه- يقول: كان يقْدُمُ وما يخالط أحداً من طلاب العلم؛ لأنه كان رحمة الله عليه لا يحب الاختلاط بالناس إلا إذا كان فيه فائدة، ولا يأنس بكل أحد، ولا يرتاح لكل أحد، فهو حريص على شغل الوقت بالفائدة.
فمن أهم ما لاحظتُ فيه: الحرص على الوقت، كان إذا دخل البيت -كما ذكرتُ- أولَ ما يستفتح بالصلاة، وما أذكر في حياته أنه دخل المنزل وجلس، حتى والله في المرض يصلي جالساً؛ لا يدخل البيت إلا ويستفتح بما كتب الله له، ثم ينقلب مباشرة إلى فراشه، وأمام فراشه ما لا يقل عن عشرين كتاباً، فمكتبته فيها ما لا يقل عن أربعة آلاف أو خمسة آلاف كتاب، والمكتبة الأساسية في البيت التي كان جمعها رحمه الله ليس فيها كتاب إلا وقرأه من جلدته إلى جلدته، رحمة الله عليه، فقد كان كثير القراءة والمطالعة بشكل عجيب جداً! وعنده خصلة وجدتها فيه، في مسألة العلم: أنه لا يمكن أن يتكلم في شيءٍ يجهله: فأي شيء يجهله لا يتكلم فيه أبداً ولو كان الأمر ما كان، ولو كان من أوضح الواضحات إلى الله، فالشيء الذي لا يعرفه يمسك عنه، وكان يستشهد بقول الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] فيقول: هذا هو التكلف.
ويستشهد أيضاً بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
فلا يتكلف في شيء لا يعرفه، وهذا -في الحقيقة- من أجلِّ نعم الله على طالب العلم إذا رزقه الله هذا العلم، وهو أنه لا يتكلم في شيء يجهله؛ فإن هذا من دليل أمانته، ولذلك هما العالِم وطالب العلم إذا كانا وقَّافَين عند حدود الله، لا يتكلمان في شيء يجهلانه! أيضاً من الخصال التي وجدتُها فيه رحمة الله عليه: عدم مبالاته بالدنيا؛ أقبلت أو أدبرت: حتى أنني أذكر أنه ذات مرة -وهذه قَصَص عادية؛ لكن لعل الله أن ينفع بها- حفر بئراً، وكان قد كلَّفه ما لا يقل عن مائتين وخمسين ألفاً، ولم يشأ الله أن يخرج فيه ماء، فجاء هذا الذي حفره وقال: والله يا شيخ! إن هذا يُحْتَمل أن يكون شيئاً قد سد الماء الجاري.
يريد أن يخفف الصدمة على الوالد.
أي: الظاهر أن الماء الجاري قد سده شيء ما أثناء الحفر، وإن شاء الله ربما في المستقبل يتحسن.
فقال: يا بني! والله لو أن هذه المزرعة كلها ذهبت فإني راضٍ عن الله.
كان لا يبالي أبداً بهذه الدنيا، سواءً أقبلت أو أدبرت، وقلَّ أن يُسأل شيئاً فلا يعطيه، رحمة الله عليه.
دخلت عليه ذات يوم فوجدته يبكي، فلما رآني قلب وجهه إلى جهة الأخرى للفراش، ومسح الدموع، ثم جلس عادياً، وكان قليل البكاء رحمة الله عليه، إلا أني لا أذكر أني رأيته يبكي غالباً إلا في فقد عزيز، أو في عبرة، أو في الليل؛ لأني كنتُ أدخل عليه في بعض الساعات في جوف الليل.
فنَشَجَ ثم جلس معي كأنه ما به شيء، وأنا قد رأيته يبكي؛ فخشيتُ أن يكون جاءه شيءٌ يسوءُه، فنزلتُ به وقلت: يا شيخ، خيراً إن شاء الله! قال: لا.
خير، ماذا تريد؟! يريد أن يصرفني عن الشيء الذي رأيته، فألححت عليه وقلت: يا شيخ رأيتك تبكي، وكنتُ أحب أن أعرف السبب! فقال لي -والله بهذا الحرف-: ما لي لا أبكي وأيتام فلان توفي أبوهم، وليس عندي شيء أرسل لهم.
أي والله قال هذه الكلمة.
وأذكر فيه -رحمة الله عليه- أنه كان يعودنا على الرأفة بالمساكين والأيتام: وهذه كانت فيه خصلةً عجيبة! حتى أنه كان يقول لي: إذا مررتَ على المرأة تسأل فلا تجاوزها حتى تعطيها شيئاً، ولو أن تعطيها غُتْرَتَكَ التي على رأسك.
فكأني استعجبتُ من هذا الكلام.
فقال: لأنك تعرف المرأةَ إذا احتاجت ماذا تفعل؟! لأنها إذا احتاجت قد تقع في الزنا، وهي عورة من عورات المسلمين، فلا يليق بك أن تمر بها إلا وقد كفيتها، فلو كانت كاذبة فإن الله يأجرك على حُسْن النية، ويعاملك على حُسْن نيتك.
فكان -رحمة الله عليه- عطوفاً، ربما كان راتبه أكثر من سبعة آلاف أو ثمانية آلاف في ذلك الزمان، فما كان يأتي عليه منتصف الشهر إلا وقد استدان رحمة الله عليه.
الدنيا هذه سواءً أقبل منها أو أدبر عنها لم ينفعه الله بها كثيراً، فإذا أراد الله أن يفرِّغ طالب العلم للعلم نَزَعَ من قلبه الدنيا، ولذلك تجده أغنى ما يكون بالله، وأفقر ما يكون لله جل جلاله.
فهذه من بعض المواقف التي تَحْضُرني.
الموقف الأخير: وأقوله لعله أن يكون سبباً في الترحُّم عليه: فإني أشهد الله العظيم -والله شهيدٌ على ما أقول- أنني دخلتُ عليه قبل أن يتوفى بقرابة ثلث ساعة أو نصف ساعة واللهِ العظيمِ لا أذكر أنني رأيته أشرق وجهاً ولا أبهج نفساً من تلك الساعة، رحمة الله عليه.
أسأل الله العظيم أن يجمعنا به في مستقر رحمته.