Q أنا إمام وخطيب في أحد الجوامع، ولقد اتُّهِمْتُ في عقيدتي من بعض الشباب الملتزمين، والذي أعْلَمُه من نفسي أني أعتقد معتقد أهل السنة والجماعة -وإن كنتُ لا أعلم في مسائل العقيدة كثيراً-! فماذا أفعل معهم؟! وما هي نصيحتكم إليهم؟
صلى الله عليه وسلم الذي تفعله: أن تدعو هؤلاء الذين يتكلمون في عقيدتك، وأن تجتمع أنت وإياهم بين يدي إنسان من أهل العلم، فيعرضوا ما عندهم من الشبه والمآخذ، وتتقي الله فيما يقولون؛ فإن كانوا صادقين صَدَقْتَ وبيَّنْتَ حجتك بكلامك، فما كان من صوابٍ قَبِلْتَه وما كان من خطأٍ رددتَه.
فإن كان القوم قومٌ بُهْتٌ، وأصحابُ استعجال وأغراضٍ وأهواء فاصبر أخي في الله؛ فإنه لا بد من الابتلاء، يقول الله عز وجل عن نبيه موسى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] الله أكبر! قال: {آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب:69] فَلَمْ يتركْه، بل قال: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} [الأحزاب:69].
فكل من تقلَّد إمامة أو منصباً دينياً، وطُعِنَ فيه، فالله هو الذي يتولى أمره، {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] فما ذكر صلاة موسى، ولا عبادته؛ ولكن ذكر بلاءه، وطَعْنَ الناس فيه، ثم قال بعده: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
فإذاً: على طالب العلم أن يعلم أن الوجاهة التي يريدها سوف يجد أمامها الطعنَ في عقيدته، والطعنَ في منهجه، والطعن في رأيه.
ثم إننا نقول لكل طلاب العلم: اتقوا الله في أنفسكم، فإن الله ما أرسلنا حَفَظَة على العباد، وما أرسلنا متتبعين لعورات الناس: (فإن من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر بيته).
فعلينا أن نتقي الله في عورات المسلمين، وأن نتقي الله في أعراض المسلمين، وأن نتقي الله فيما نقوله في إخواننا، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وأن نكره لهم ما نكره لأنفسنا، فهذا من دلائل الإيمان، وليس معنى هذا أن نترك الحبل على الغارب لأهل البدع والأهواء، لا؛ ولكن انتقدْ ببَيِّنة، وإذا رأيت إنساناً من أهل البدع فاذهب إليه، وانصحه، وذكِّره بالله، وأقِمِ حجة الله عليه.
فيا أخي! إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى عبدة الأوثان، فيقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم قومٌ لا يعلمون) فكيف بإنسان قد يكون عنده خطأ أو شبهة، ولعل الله أن يشرح صدره على يديك؟! ولذلك فإن من أفضل ما تكون الدعوة: الدعوة إلى سلامة المعتقد، فمِن أَحَبِّ الدعواتِ إلى الله، ومِن أَحَبِّ العلمِ وأشرفِه وأكرمِه: علمُ العقيدة، فإذا كان الإنسان يحس بجلالة هذا العلم وفضله وعظيم منزلته عند الله فينبغي أن يكون أفضل الناس في غرسه في قلوب الناس، فتكون عنده المنهجية السديدة، فلا ينفِّر الناس، بمعنى: أنك بمجرد أن ترى خطأ على شخص لا تجلس فتثلِّب فيه حتى يكره الحق، فهذا صعب -يا أخي- ولكن هيئ له أمراً يدعوه إلى ترك هذه البدعة، وترك هذا الهوى، زُرْه -مثلاً- المرة الأولى، والمرة الثانية لوحدك، والمرة الثالثة مع طلاب العلم، والمرة الرابعة مع شيخ؛ وأوصي بالعلماء الذين يعرفون نصحه.
فابذل كل ما تستطيع وكأنك أمام إنسان غريق، فإن الله عز وجل قد ينقذه على يديك.
وهذا أمر مهم جداً؛ أن نكون ناصحين، وأن يكون النصح لعامة المسلمين، وأئمة المسلمين، وعلمائهم، بالشكل الذي يُرَغِّب في الحق لا الذي يُنَفِّر منه.
إن التُّهَمَ هذه التي تقال والتي تحاك لا يجوز لمسلم أن ينقلها بلسانه إلا على بيِّنة، فلو أنك سمعتَ عن إنسان يقال عنه: أن في عقيدته كذا، فإن هذه الكلمة -ولو نقلتها نقلاً فقط- فإنك تحاسب عنها بين يدي الله، ويكون هذا الشخص خصماً لك بين يدي الله، واللهِ إنك ما تقول عن إنسان في عقيدته شيئاً إلا جاء يوم القيامة يخاصمك بين يدي الله عز وجل، فيقول: يا رب، سَلْ هذا، فقد قال فيَّ كذا وكذا: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] هذا إذا كان عظيماً في القذف وفي الإفك، فكيف في العقيدة؟! سبحان الله! فقد أخبر الله أن ((الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] هذا في ماذا؟! هذا في ما إذا قذف في العرض، فكيف بمن يقذف في الأفكار والمناهج! فيقال: فلان ضال في منهجه، وفلان زائغ في منهجه، وفلان كذا، فلا يُتَحَرَّى؟! نحن لا نفتح الباب -بما نقول- لأهل البدع والأهواء، فلا مانع أن تحذر من أهل البدع، وأن تبين خطأهم، وأن تبين ما هم عليه؛ ولكن على بيِّنة.
والمراد: أن نتقي الله في أعراض المسلمين الذين تقال فيهم الشائعات من العلماء والدعاة والأخيار والأئمة دون بيِّنة، فهذا ليس من شأن المسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وفي قراءة: {.
فَتَثَبَّتُوا} [الحجرات:6].
وجاء في الحديث: (ألا إن التَبَيُّن من الله، والعجلة من الشيطان) وهو حديثٌ مُتَكَلَّمٌ في سنده؛ لكن معناه صحيح، فإن العجلة من الشيطان؛ لأن الشيطان يريد نقل الشائعة بسرعة، ولذلك تجد من ينقل هذه الشائعات مريضَ القلب يعتني بسرعة نقلها، وواللهِ إنه ليبلغ ببعضهم أنه يفرح أن يجد على الداعية أو على الشيخ مآخذاً، فيكون -نسأل الله السلامة والعافية- كالذباب؛ لا يقع إلا على النجس والخبث -والعياذ بالله-، وهذا من آفات القلوب وأمراض القلوب، نسأل الله أن يسلمنا منها.
وهذا كلام عام للناس جميعاً، واللهِ لا نعني به طائفة ولا أمة؛ ولكن نعني به كل مَن خالف هذا المنهج الذي قامت عليه نصوص الكتاب والسنة.
فينبغي علينا أن نحفظ أعراض المسلمين، وأن يكون عندنا الحرص على توجيه الناس أكثر من تنفيرهم، يقول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ وأبي موسى وهما ذاهبان إلى قومٍ كافرين من أهل الكتاب: (يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، بَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا).
فالإنسان المُعَسِّر لَمَّا يأتي ليدعو فإنه يُنَفِّر غيره بالأسلوب، يقول عبادة بن الصامت: [يُحْكَى عن معاذ رضي الله عنه كلمة حكيمة: إنكم تسمعون الزلة عن العالم، فلا تعجَلوا عليه -لا يوجد أحد كاملاً، بل لا بد للعالِم أن يقع في الخطأ، فلا تعجَلوا عليه- فإنه أحرى أن يراجع نفسه].
أي: أن العالم إذا جئتَ إليه فلا تقل له: قال فلان، وقال فلان، فتُهَيِّئَ له وَضْعاً يجعله يُصِر على خطئه؛ لأنك بهذا تكون قد أسأت في حقه؛ لكن لا تعجَل عليه، بل تراجعه وتذكره بالله، وتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وإذا بك تجده قد استفاق وانجلت عنه العماية؛ فيدعو لك بخير؛ فتكون سبباً في توجيهه، وهذا من حق العالِم علينا.
المقصود من هذا كله: أن هذه الأمور ينبغي التنبُّه لها.
وأما ما ذكرتَه -أخي السائل- فإني أوصيك بشأنه أن تَعْرِض ما أنت فيه وتَعْرِضهم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت منهم إعراضاً ووجدتهم قوماً لا يعتنون إلا بأذيتك، ولمست منهم الحسد فاصبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لك فيه أسوةٌ حسنة، فقد قيل عنه: الساحر، والأفاك الأثيم، والمجنون، والأبتر، والصابئ، ومات وهو سيد الأولين والآخرين.
والله إن الله سيضعك في مرتبةٍ إذا أحبك، ولو أن الخلق كلهم أرادوا أن ينزلوك عنها شعرة واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وإذا غضب الله على العبد وأراد الخلق كلهم أن يرفعوه درجة واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلا تأبه بهم.
يقول الشاعر: إن يحسدوك فلا تعبأ بقائلهم هم الغثاء وأنت السيد البطلُ قيلت هذه في الإمام الحافظ/ عبد الغني المقدسي -رحمة الله عليه- واقرأ في التاريخ، وابدأ بصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كنتُ أقرأ في سيرة أبي هريرة، فوقفتُ أمام عبارة عجيبةٍ مِن القِدَم! عجيبةٌ والله! أبو هريرة يُتْرَك بلا طعام ولا شراب -كما في صحيح مسلم- وكان يُصرع حتى يأتي الرجل ويضع قدمه عليه، ويظن أنه مجنون، وما به إلا الجوع، رضي الله عنه وأرضاه، يُصرع من أجل ماذا؟! من أجل أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْثِراً به على ملء بطنه؛ لأنه يريد أن يحفظ لنا سنته -رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الخلد مثواه ومأواه-.
هذا الصحابي الجليل يلقبه الحافظ ابن حجر بحافظ الصحابة، أسلم يوم خيبر، ومع ذلك حفظ ما لم يحفظه مَن كان قبله في الإسلام مِن كثرةِ حفظه وملازَمَتِه للنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الصحابي لَمَّا حفظ أتعرفون ماذا جرى له؟! جاء في الخبر عنه رضي الله عنه أنه في يوم من الأيام -تعرفون أنه كان يحدِّث بالأحاديث، فلما أَكْثَرَ أصبح الناس يشكِّكون في الكلام الذي يقوله- فقال ذات يوم: [يا أهل الكوفة! أنا أكذب على رسول الله؟! أنا أكذب على رسول الله؟! اللهُ الموعد] وقَبَضَ على لحيته! سبحان الله! نظرتُ إلى هذا فعلمتُ أن لطلاب العلم أسوة بهذا الصحابي الجليل، فأنت تحفظ العلم، وتتجند للدعوة إلى الله، ثم تجد فلاناً يطعن في رأيك، وفلاناً يطعن في منهجك، وفلاناً فيه -أقل ما فيه- أنه إذا وجدك صالحاً قال: فلانٌ ليس عنده علم؛ حَسَداً منه، المهم عنده أنك لا تأخذ أحداً، ولا يجلس معك أحد.
فأقول لمثل هذا: لماذا يا أخي؟! ينبغي التآلف والتكاتف، وأن يحس الإنسان أنه يشد على يد أخيه! فنسأل الله العظيم أن يسلمنا من أمراض القلوب، وأن يصلح الحال، وأن يوجب لنا من عصمته فيما عند الله تعالى.