نماذج نسائية معاصرة في ميدان الدعوة والتضحية في سبيل الدين

Q ضرب لنا الصحابيات في صدر الإسلام خير مثل في الدعوة إلى الله تعالى، فما هي الأدوار التي لعبتها الداعيات في هذا العصر، نريد نماذج حية، وذلك مع ما أمكن من التفصيل؟

صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يسخر لنصرة دينه والقيام به من شاء من عباده ولا يختص هذا بعصر من العصور، ففي كل عصر ينزل الله تعالى لائحة من عباده يكلفهم بنصرة دينه لا خيار لهم في ذلك، ولو أراد أحد منهم أن يصرف نفسه عن خدمة الدين لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي المقابل نجد آخرين أقوى أجساماً وأفرغ بالاً وأكثر أموالاً فلا ييسر الله لهم خدمة دينهم، بل يجعل في وجوههم العقبات ويصدهم عن نصرة دين الله تعالى، وهذا ما صرح الله به في كتابه في قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146]، وكذلك في قول الله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9]، وفي قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:46 - 47].

فيضع الله تعالى العراقيل في وجوه من شاء من عباده حين لا يرتضي خدمتهم لدينه، فهم غير مرضيين عنده فلا يرتضي خدمتهم لدينه فيصرفهم بالصوارف، وأما من ارتضاهم لخدمة دينه فيهيئ لهم الأسباب حتى ولو كانوا مشغولين أو كانوا ضعاف الأبدان أو ضعاف العلم أو مقلين من المال أو غير ذلك، فييسر الله لهم أسباب نصرة دينه والبذل في سبيله.

وأذكر في واقعنا المعاصر قصة امرأة عاشت في أول بلد من بلاد الإسلام اشتهر فيه انخلاع المرأة من لباسها وحيائها، وقد عاشت في أعقاب ثورة النساء المشهورة التي قادتها هدى شعراوي أول امرأة خلعت لباس رأسها ورقبتها في العالم الإسلامي، فعاشت هذه المرأة في أعقاب هذه الفترة، ومع ذلك نذرت نفسها لله تعالى فضحت في سبيل الله بكل ما تستطيع، فكانت تجمع الشباب في بيتها ليتعلموا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتقول: أنا لا أستطيع أن أعلم أحداً ولا أن أتعلم كثيراً مما ينبغي أن أتعلم، ولكنني سأكون خادمة لعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوفر لكم المكان وأوفر لكم ما أستطيع من الغذاء، وأوفر لكم التغطية المناسبة، فأريد أجركم فقط؛ تريد المشاركة بالأجر.

فسعت بهذا، ولكن الله فتح لها كثيراً من العلم، مع أنها امرأة كبيرة في السن، ويسر الله لها تعلم كثير من العلم فقرأت عدة من تفاسير كتاب الله تعالى وأحاطت بما فيها، ثم قرأت عدة من كتب السنة وأدركت كثيراً مما فيها، ثم حاولت أن تعيش لله تعالى فأوذيت في سبيل الله بأنواع الإيذاء، فسجنت مدة سنتين وثمانية أشهر تحت التعذيب، ومكثت ثلاثة أيام بلياليهن لا تجد ماءً ولا مأكلاً، ورميت في بركة من الماء البارد في الشتاء فلما خرجت جلدت خمسمائة سوط وأعيدت إلى الماء البارد فلم ترجع، وصبرت على أنواع الإيذاء في ذات الله، ولكنها خرجت من السجن وهي شامخة الأنف، بطلة من أبطال الإسلام، حامية لثغر من ثغور هذا الدين.

وكذلك: أعرف أخرى في عصرنا هذا ما زالت حية، وكان من أمرها أنها تزوج بها أحد الدعاة إلى الله عز وجل، فسعت في مؤازرته في دعوته متأسية بـ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فكانت في خدمته ومواساته والسعي معه في نصرة دين الله، فتعرض لبعض الإيذاء وأخذ إلى السجون، فلما أخذ إلى السجون كانت هذه المرأة عند حسن الظن بها، فأخذت كل ما بحوزة زوجها مما تعلم أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد فوضعته في أكياس خاصة وأخفتها في أخفى مكان، وأخذت الأولاد واعتنت بهم وعلمتهم ما كان يحب أن يتعلموه، وربتهم على الشهامة وحسن الخلق، وأن يبذلوا نفوسهم نصرة للدين، وأن يكونوا مثل أبيهم مضحين في سبيل الله.

وكثرت الضغوط على هذا الرجل في السجن، حتى إنه عرض له فلم فيه صورة واجهة بيته وكأن امرأة تخرج يدها لأهل الشارع تطلب منهم المساعدة، يريدون أنها زوجته، وكل هذا دبلجة غير صحيحة، وأخرجوا له صورة بعض الأولاد وهم في أرث ملابس وفي أشد حال، يريدون الضغط عليه نفسياً، وقالوا: أنت المسئول عن هؤلاء، فأنت يمكن أن تصبر على ما شئت؛ لكن هؤلاء ما ذنبهم؟ هذه المرأة المسكينة التي أخذتها من بيت أهلها، وهؤلاء الأولاد الذين كنت سبباً في شقائهم عليك أن ترحمهم، ولكن الرجل كان محقاً فصبر وصمد.

ثم أرادوا الذهاب إلى بيته لتفتيشه فجاءوا يطلبون تفتيش البيت فامتنعت المرأة أن تفتح لهم وسبتهم سباً يظهر فيه كثير من الجراءة والشجاعة، ثم أتوا به هو فسلم عليها فعرفت صوته فرحبت به ترحيباً كبيراً وجعلته بطلاً عظيماً وفتحت له الأبواب وأدخلته وقامت في خدمته، ثم قالت: أما هؤلاء الكلاب الذين معك فإني لا أخدمهم فإن شئت فناولهم الضيافة وإلا فدعهم فهم كلاب يخدمون أنفسهم، ثم أدخلت الأولاد في المغتسل فنظفتهم وألبستهم أحسن الملابس وأتت بهم واحداً بعد الآخر يقبلون رأس أبيهم ويقرءون عليه ما حفظوه بعده من القرآن والسنة، ويشجعونه على ما هو فيه، وكل واحد ينشد أنشودة فيها بطولة وشجاعة وهكذا؛ فأدرك الرجل أن وراءه شخصاً يوثق به، وأن وراءه من لا يتضعضع ولا يلين في كل الخطوب، وبذلك استفاد كثيراً وازداد ثباتاً في سجنه، حتى إنه حين رجع إلى السجن قال: لا أبالي حتى ولو دام السجن حتى نهاية العمر فإن خلفي من أثق به.

ولهذا يقول أحد الشعراء في تخليد هذا النوع من النساء: ما غاب من خلّف في الدار من ترعاه في مقامه والمسير كأنها إياه في كل ما تفعل في غيبته تستشير تأتي الذي يرضى وتأبى الذي يأبى عليها دينها والضمير

طور بواسطة نورين ميديا © 2015