إن هذه الحكمة مقتضية لانتقاء الأماكن والأوقات للكلام والتصرفات، فيا رب كلمة تقول لصاحبها: دعني ويا رب كلمة لو قيلت في مكان كانت مفيدة مثمرة، ولو قيلت في مكان آخر كانت سيئة قبيحة، ويا رب فِعل لو فُعل في مكان كان حسناً، ولو فُعل في غيره كان قبيحاً.
ولما رأى صلى الله عليه وسلم أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه يتبختر يوم أحد بين الصفوف قال: (إنها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموقف).
وكذلك قال لـ عمر رضي الله عنه حين أراد أن ينتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فقال: يا رسول الله! دعني أنتزع ثنيتي سهيل لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم.
قال: (عسى أن يجعل له مقاماً تحمده عليه)، فكان ذلك عندما ارتد العرب عن دين الله، فوقف سهيل خطيباً في قريش بمكة فثبتهم على الدين.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حصلت قضية الإفك، وأراد المنافقون أن يفرقوا بين المهاجرين والأنصار، وقال عبد الله بن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فلم يعطهم فرصة للمناقشة، بل رحل وما زال بهم من وقت الظهيرة، ثم نزل في الليل، وقد صل بهم أربعاً وعشرين ساعة من السفر الجاد المضني، ويريد بذلك أن يشغلهم عن المناقشات الجانبية، وعن الأمور التي لا تدخل في الأولويات، فانشغلوا بذلك حتى وصلوا إلى المدينة.
وكذلك ثبت في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه -وهو في حجته التي مات بعدها بقليل- أن رجالاً يقولون: إن بيعة أبي بكر كانت شتى، ولئن مات عمر لنبايعن فلاناً أو فلانا.
فأراد أن يقوم في الناس خطيباً فيبين لهم سياسة الإسلام بعرفة، فأتاه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإنك هنا يغلب عليك الرعاع، ويحيطون بك من كل جانب، فيحملون قولك كل محمل، ولا يضعونه في موضعه، ولكن إذا رجعت إلى المدينة ونزلت بالدار واجتمع عليك المهاجرون والأنصار، فقل ما شئت.
ففعل ذلك عمر، فهذا من تنزيل الكلم في مواضعه.
وكذلك فإن من هذه الحكمة في الدعوة أن يدرك الإنسان الظروف المحيطة به، وأن لا يغامر المغامرات التي لا تجدي والتي لا تنفع، فالمغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة هي من المبادرات المنهي عنها، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل حذيفة إلى الأحزاب قال له: (ولا تحدث حدثاً حتى ترجع إليّ).
فلذلك ليس من الحكمة في الدعوة أن يقوم الإنسان بمغامرة ليس وراءها ما يمدها ويقتضي استمرارها، وكثيراً ما يتصرف أقوام على غير مشورة فيغامرون مغامرة ربما جاءت ببلايا فيجر الحبل أحبلا، كما قال أبو طالب: ففي فضل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا وقد شاهدنا تصرفاً يشبه هذا، فقد رأى أحدهم سائحة إيطالية فأطلق عليها رصاصة فجرح إصبعها فقط، فأخذ هو وكل من حوله، وتضرر بذلك عدد كبير من الصالحين الأتقياء، وأوذوا إيذاءً شديداً بسبب هذا التصرف الطائش.
إن هذا النوع من المغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة ليس من الحكمة ولا من الدعوة، إن من الحكمة في الدعوة أن يزن الإنسان أموره بميزان المصلحة، وأن لا تعجل، ويعلم أن العاقبة للمتقين، وأن الحق لابد أن يظهر، ومن هنا لا ينهزم ولا يضعف، ويزول عنه كل الخور، ويطول حينئذٍ نَفَسُه، وتقوى قوته، ويعد العدة ليوم آخر، كما قال الحارث بن هشام: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا فرسي بأشقر مزبد فعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي ففررت منهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بلقاء يوم مفسد وإذا أعد عدته واستعد للمواجهة فحينئذٍ يمكن أن يكون هو صاحب القرار، أما أن يتجرَّأ على مواجهة غير موزونة وهي محسومة في البداية وقواها غير متكافئة فهذا ليس من الحكمة في شيء، وكثيراً ما يؤدي إلى أضرار تستمر العقود من السنين، وما زالت المغامرات التي حصلت في بعض البلاد الإسلامية إلى الآن والناس في بعض أضرارها، مغامرات غير موزونة وتصرفات ليست عن روية، فيحصل بسببها كثير من الفساد المستشري.