كذلك من مشاهد القيامة التي يذكر بها الحج الحشر في عرفات، فإن الناس يجتمعون في هذا الوادي الذي هو بطن نعمان الذي أخرج الله فيه من آدم ذريته، كما في الحديث: (مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون.
ثم مسحه ثانية فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون.
وحينئذ دعاهم الله سبحانه وتعالى فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا).
فيأتي المؤمنون لتجديد هذا العهد، فيجددون هذا العهد مع الله في كل سنة، هذا المكان الذي قلنا فيه: (بلى شهدنا) نعود إليه في هذا اليوم من كل سنة فنقول: بلى شهدنا.
ولذلك فأفضل الدعاء دعاء يوم عرفه، وأفضل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) كما في الحديث، فيجدد الناس بذلك العهد وينتظرون الوعد.
وقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
من قالهن في يوم فمات دخل الجنة، ومن قالهن في ليلة فمات دخل الجنة)، هذا الدعاء العظيم الذي هو سيد الاستغفار فيه تذكر لهذا الموقف؛ فإن الإنسان يقول فيه: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك)، ويقر بذلك بالربوبية، (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، وهذا إقرار بالإلهية؛ لأنه حقق أنه لا يعبد من سواه ولا يلتمس نفعاً ولا ضراً إلا منه سبحانه وتعالى، فلذلك قال: (وأنا على عهدك)، وهذا العهد هو الذي عاهدهم عليه عندما قال: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى.
(ووعدك) الوعد الذي وعد على ذلك، ووعد الله لعباده هو أن حق العباد على الله أن يدخلهم الجنة إذا آمنوا به واتبعوا أوامره واجتنبوا نواهيه، فهذا هو وعده.
(وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، فيجدد الإنسان هذا العهد، ويتذكر من مضى ومن أتى في القرون السابقة، وأن جميع الأنبياء قد حجوا هذا البيت من لدن إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مرتين، فعندما مر بفج الروحاء استقبل وادياً فسأل عن اسمه فقيل: الأبيض.
فقال: (لكأني بيونس بن متى يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية)، ثم لما مر بثنية (هرشا) سأل عن اسمها فعرف بها، فقال: (لكأني بموسى بن عمران يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية على ناقة له حمراء خطامها من ليف).