من التعبدات القولية في الصلاة الفاتحة

ثم بعد هذا تأتي الفاتحة التي جعلها الله تعالى هي الصلاة فيما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: الله حمدني عبدي.

فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي -وفي رواية: فوض إلي عبدي- هذا لي ولعبدي ما سأل.

فإذا قال العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.

فإذا قال العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)، فجعل هذه الفاتحة هي الصلاة، قال: (قسمت الصلاة)، ولم يذكر من الصلاة إلا الفاتحة، فدل هذا على عظمة هذا القول من أقوال الصلاة.

وإن أبلغ الثناء على الله سبحانه تعالى هو ما أثنى به على نفسه في افتتاح كتابه، وهو هذه الآيات العظيمات التي يبتدئها الإنسان كأنه غائب، فيأتي بلفظ الاسم الذي هو مشعر بالغيبه فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ولم يقل: الحمد لك يارب العالمين، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، وأتى بهذين الاسمين المشتقين من هذة الصفة كذلك على وجه الغيبه، وكذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أتى بهذه الصفة أيضاً على وجه الغيبة، لكن إذا بلغ هذا المستوى من الثناء على الله وتنزيهه وحمده انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وهذا الانتقال هو الذي يسميه أهل البلاغة التفاتاً، وفيه يقول السيوطي رحمه الله تعالى: فالعبد إذ يحمد من يحق له ثم يجي بالسمة المبجلة فكلها محرك الإقبال لمالك الأمور في المآل فيوجب الإقبال والخطابا بغاية الخضوع والطلابا للعون في كل مهم يقصد وقس عليه كل ما قد يرد فلذلك يشرع للإنسان أن يقف على رأس كل آية من آيات الفاتحة، ويستلذ بهذا الحوار العظيم التي أتيحت له فيه الفرصة ليحاضر ربه سبحانه وتعالى.

إننا جميعاً نغبط موسى عليه السلام أن الله جعله كليمه، وهذه منزلة عظيمة امتن الله عليه بها، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] , وأنت أيها المصلي عندما تقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] يخاطبك الله سبحانه وتعالى: (حمدني عبدي)، وإذا استحضرت هذا المكان الذي أنت فيه فإنك تنال لذة لا يعدلها شيء، تنال مقام المناجاة الحقيقية، كأن الله يخاطبك وقد وصلت إلى هذا المستوى فيجيبك ديان السماوات الأرض.

ومن هنا شرع لك أن تقف على رأس كل آية لتنال لذة المناجاة، فموسى عليه السلام عندما خاطبه ربه فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] استرسل معه في الجواب ولم يقتصر على طبق السؤال للذة المناجاة، فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] , وطبق السؤال أن يقول: (هي عصاً) فقط وينتهي الكلام، لكنه قال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] , ليتلذذ بمناجاة الله سبحانه وتعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015