إن علينا أن لا ننهزم لمشاهدة هذا الذل والاستضعاف، وأن نعلم أن هذا حال من الأحوال وطور من الأطوار مرت به الأمم من قبلنا، وقد قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
إن هذا الحال من المبشرات المؤذنة باقتراب النصر، فلا يحول بيننا وبين النصر إلا أن نتجه إلى الله بقلوب سليمة، وأن نستشعر التكليف الذي جعل علينا، وأن نؤدي الحق، فمجرد بذلنا لما نستطيعه كاف في الوصول إلى الأهداف، ولذلك قال الله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، فبمجرد دخول الباب يحصل النصر من عند الله؛ لأن النصر لا تجلبه الوسائل والمعدات والأدوات، فلو كان كذلك لحصل النصر للاتحاد السوفيتي، إنما النصر من عند الله، ولا يكون إلا بذلك.
ولهذا فإنما عودنا الله على النصر عند الرجوع إليه، وعند الامتثال لأوامره والاجتناب لنواهيه، وعودنا كذلك أن النصر دائماً مع الصبر، ولا يكون إلا بعد الابتلاء، وأن الذين ينصرون غالباً إنما هم فئة قليلة مستذلة ينظر إليها أهل الأرض جميعاً بنظرة ازدراء، ثم يكون لها التمكين والنصر، ولذلك أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].
فبعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه يختفون في دار الأرقم على الصفاء، نصرهم الله سبحانه وتعالى في مواطن كثيرة وأعلى كلمته وأعز دينه.
والذين كانوا يحاصرون في الشِّعب ولا يجد أحدهم ما يقوم به قوته، ويربطون الحجارة على بطونهم من الجوع لم يعد أحد منهم بعد ذلك إلا والياً على مصر من الأمصار، كما قال عتبة بن غزوان رضي الله عنه: لقد رأيتنا في الشعب وما منا أحد إلا ويعصب الحجر على بطنه من الجوع، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار.
إن أولئك صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفى الله لهم بعهده وحقق لهم سنته، فعندما غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم، فتحقق لهم ذلك بعد صبر يسير، كان صبرهم في الشعب ثلاث سنوات، ولكنهم ما لانوا وما ذلوا وما هانوا، واستمروا على الصمود على الحق، ولم يتراجعوا من أجل الضغوط والأذى، فحقق الله لهم المراد، وضرب لهم أمثلة كثيرة سبقت، فإن الله تعالى يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:146 - 148].
إن أولئك الذين آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة هم الذين لم يذلوا ولم يستكينوا ولم يهونوا، بل صمدوا وصبروا واستقاموا على منهج الله، ولم يستجيبوا للضغوط ولا للأذى، بل تعدوا ذلك وتحدوه انتصروا عليه.
تذكر الحال الذي كان بها بلال عندما بطح على الرمضاء ووضع على ظهره الحجر المحمى على النار، وهو يقول: أحد أحد.
وكذلك حال آل ياسر إذ ذاك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهم يعذبون بالسلاسل ويجرون في الرمضاء فيقول: (صبراً -آل ياسر- فإن موعدكم الجنة).
إن أولئك الذين صمدوا وصبروا هم الذين آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وأثرهم ما زال بارزاً واضحاً للأيام، فما علينا إلا أن نسلك الطريق وعلى الله البلاغ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.