ومن هنا فإن الناس في الدعوة على أربعة أقسام: القسم الأول: الذين لا يتحملون سماعها، ولا يطيقونها، ويفرون منها كما يفرون من الأسد، وهم المشركون الذين قال الله فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51].
القسم الثاني: الذين يطيقون سماعها بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى القلوب، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16].
القسم الثالث: الذين يفصلون فيها، فيقبلونها من بعض الناس دون بعض، فإذا سمعوا من يدعو إلى الله ممن يعجبهم شكله أو نسبه أو حسبه أو يعرفونه، استمعوا إليه، وأصاخوا له، وإن قام مجهول لديهم، أو من لا ينزلونه هذه المنزلة في أمور دنياهم لم يستمعوا إليه، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين اتصفوا بصفة من صفات بني إسرائيل حين قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ} [البقرة:247]، واتصفوا كذلك بصفة من صفات أهل مكة وأهل الطائف من المشركين، عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، عندما قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
وهؤلاء أنواع وأجناس: فمنهم من لا يحمله على ذلك إلا الحسد، كحال اليهود الذين حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم حسداً من عند أنفسهم، فمنعهم ذلك من اتباعه وطاعته، مع علمهم علم اليقين، أنه الرسول الذي أخذ عليه موسى وغيره من أنبيائهم العهد إذا بعث أن يؤمنوا به ويتبعوه.
ومنهم من يحول بين الالتزام بالدعوة والانتفاع بها التقليد لما كان يجده في مجتمعه أو لطريقة آبائه، فهو مقلد تقليداً أعمى، فلا يمكن أن ينتفع من أي شيء جديد، وهؤلاء في تقليدهم قد سلكوا طريقة من طرائق المشركين، وقد وصف الله المشركين المعرضين بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23].
أما النوع الرابع: فهم الذين يسمعون الدعوة من كل أحد، ولا يفصلون فيها، فيأخذون بالحق، ويردون الباطل، وهؤلاء هم الذين أثنى الله عليهم في كتابه، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]، وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:9 - 13]، وقال: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فأولئك هم الذين ينتفعون بالذكرى، وهم أهل الإيمان المستجيبون للدعوة.