كذلك من هذه الأمور التي تحول دون التوبة الجرأة على الذنب، فإن لله سبحانه وتعالى برهاناً في قلوب عباده المؤمنين، هو النور الرباني الذي يحول بين الإنسان وبين اقتراف معصية الله، فيتذكر إذا مسه طائف من الشيطان، وإذا عرضت عليه النفس الأمارة بالسوء سوء ذكر الله، وإذا عرض عليه أي ذنب من الذنوب ذكر الله ففر منه وتركه.
وأحوال الناس في هذا البرهان متفاوتة، فمنهم من يقوى البرهان الرباني في نفسه فلا يقارف المعصية ولا يسمع لها صوتاً ولا يرى لها حركة ولا يشم لها رائحة، وهؤلاء محفوظون من الوقوع في المعاصي، ومنهم من يستزله الشيطان ولكنه يتذكر فيتوب ويرجع، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، ومنهم من تعجبه المعصية يسمعها من غيره، وتكون مشاركته حينئذ الإقرار والسكوت، ولكن من رضي وتابع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يشارك فيها ولا يكون رأساً، ولكنه يكون ذنباً في المعصية، ومنهم رؤساء المعصية وقادتها، نسأل الله السلامة والعافية.
وكل هؤلاء درجاتهم متباينة في هذا البرهان الرباني الذي يحول دون المعصية، فلذلك قد ينزع هذا البرهان بالكلية من قلب الإنسان وهو أمانته، فينام الرجل النومة فيسرى على الأمانة فتنزع من قلبه، فيبقى أثرها كالوكت كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ فتراه منتبراً وليس فيه شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، نومة واحدة ينامها الإنسان فيسرى على الأمانة فتنزع من قلبه.
ويكثر هذا في آخر الزمان، فمن فتن آخر الزمان أن تنزع الأمانة، ولذلك قال حذيفة: (اثنتان حدثنا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أحدهما فقد رأيناه، وأما الآخر فنحن ننتظره، ولقد مضى عليّ زمان وما أبالي من بايعت منكم، لئن كان مؤمناً رده عليّ إيمانه، وإن كان ذمياً رده عليه ساعيه، وأما اليوم فقد أصبحت لا أبايع إلا فلاناً وفلاناً)، وذلك بنزع الأمانة حتى في المعاملات في أمور الدنيا، ومن هنا فعلى كل منا أن يحاسب نفسه، وأن يتذكر أوقاتاً كان فيها يجد حاجزاً يحول بينه وبين المعصية، ويتذكر أوقاتاً أخرى يخف فيها ذلك الحاجز فيتجرأ فيها، وحينئذ سيعلم أن إيمانه يخلق ويجد فيراقب ذلك، ويسعى لتقوية إيمانه وتجديده، ومحاولة الانقطاع عن كل ما يقتضي ضعفاً في الإيمان وخرقاً له؛ لأن المشكلة أن هذا الإيمان إذا انخرق اتسع الخرق على الراقع، وصعب على الإنسان إعادته كما كان، كما قال الحكيم: فهل تهاب العفو عن كل زلة فأين مقام العفو من منزل الرضا فمعدن ترجو زوال سواده كثوب جديد لم يزل قط أبيضا ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطريق بطريق بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفوق الستور داعٍ يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه.
هذه الأبواب المفتحة هي الذنوب، والستور التي عليها ستر الله الذي يحول بين الإنسان وبين الوقوع فيها، فمن ولج الباب لم يستطع الخروج منه، فتزل به قدمه إلى ما وراء ذلك، نسأل الله السلامة والعافية والثبات، ومذكر الله وداعيه يذكر أهل الإيمان بهذا.