وكذلك نساؤهم فقد كن عند هذا المستوى من تحمل الأمانة والسعي لإعلاء كلمة الله بكل ما يطلب منهن، وبكل ما يستطعن تقديمه في سبيل الله وإعلاء كلمته.
فتخرج المرأة مهاجرة من مكة إلى المدينة أربعمائة وستة عشر كيلو في شدة الحر على رجليها، لا تحمل نفقة ولا زاداً حتى تصل، وقد خرج وفد من النساء مهاجرات ساخطات لشأن أهل الجاهلية، حتى قدمن المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهن في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
فشرفهن الله عز وجل جل بهذا التشريف العظيم الذي ما زال المسلمون يقرءونه في صلاتهم ويتعبدون الله بتلاوته.
وكذلك عبيدهم الذين كانوا يعانون من الظلم والمسكنة والمهانة في الجاهلية، فقد كان منهم من أعلى كلمة الله ونصره، وبذل في سبيله ما لا يستطيع أحد أن يبذله اليوم، وكانوا بتلك المنزلة العالية، حتى إن أبا ذر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: (يا محمد! ومن تابعك على هذا الأمر؟ قال: رجل وامرأة وعبد وصبي).
كل شريحة من شرائح المجتمع خرج منها سابق هو أفضلها، فكان من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينذاك الرجل أبو بكر، والمرأة خديجة بنت خويلد، والعبد بلال، والصبي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وكذلك الحال بالنسبة للغرباء الذين أتوا من ديار بعيدة، فهذا صهيب الرومي كان بمكة وكان تاجراً ثرياً، وكان كبير السن قد بلغ أكثر من المائة، وكان رامياً معروفاً لا يخطئ في رمايته، فلما أراد أن يهاجر إلى الله ورسوله أرادت قريش منعه من ذلك، فجمع ماله فنثره بين أيديهم، فقال: يا معشر قريش! ماذا تبغون مني؟ فأنتم تعلمون أني شيخ قد بلغت أشدي، وتجاوزت المائة، وليس بيني وبينكم رحم، وإن كنتم تطلبون المال فهذا مالي في وجوهكم، وإن كنتم تريدون ردي عن ديني فوالذي يحلف به صهيب لا يصل إلي أحد منكم حتى يخرج سهم من كبده.
ونثر كنانته وفيها السهام وهم يعرفونه بالرماية، فتركوه وخرج مهاجراً إلى الله ورسوله.
وكذلك عدد من الذين أتوا من أماكن نائية من أطراف جزيرة العرب عندما سمعوا بهذا النبأ العظيم وببعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، جاءوا يلتمسون ما جاء به من عند الله، وقد أخبرنا أحد هؤلاء بأمر عجب، ألا وهو عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: (كنت في قومي وأنا صبي صغير فسمعنا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكنت أتلقى الركبان وأتحسس الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يأتي وافد من قبل المدينة إلا سألته عما أنزل من القرآن، فكنت أحفظ كل ما بلغني عنه.
فلما أسلم قومي وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يجعلوا إمامهم أقرأهم لكتاب الله، فكنت أقرأهم، وكنت إذا ذاك صبياً صغيراً، فكنت أصلي لهم -أي: أؤمهم في الصلاة- فقالت: امرأة من نسائنا: غطوا عنا سوءة إمامكم، فاشتروا لي ثوباً ألبسه، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي بذلك الثوب).
هذا الطفل الصغير كان ذا همة عالية، فكان لا يرى راكباً من جهة المدينة إلا أتاه وسأله عما نزل من القرآن، فحاول حفظه حتى كان أحفظ قومه لكتاب الله، وكان إمامهم مع أنه كان لا يجد ما يستر عورته من الملابس، لكنها علو الهمة وعلو القدر وعلو المنزلة عند الله عز وجل.