كذلك جعل هؤلاء القوم أنفسهم وقوداً لهذه الدعوة، فرضوا أن يقدموا أرواحهم لله عز وجل، وأن يجاهدوا في سبيله بكل ما يملكون، فعندما آمن مصعب بن عمير كان أعز فتى في قريش، وكانت أمه من أغنى النساء في مكة، فكانت كل يوم تشتري له ثوباً جديداً غير الثوب الذي كان يلبسه بالأمس، ولا يأتي نوع من أنواع الطيب إلا كان مصعب أول من يستعمله.
فلما أسلم وهو فتى شاب من أحسن ما يكون الفتيان، وكان يشبه في خلقه برسول الله صلى الله عليه وسلم، حبسته أمه بين أربعة جدران، وعذبته بأنواع التعذيب، وقطعت عنه كل ما كانت تعطيه، وخلعت عنه كل ملابسه، وذلك من أجل كلمة واحدة وهي أن يكذب بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فامتنع من ذلك وصمد وصبر على هذا المنهج، حتى كان أول سفير في الإسلام، وأول إنسان عهد إليه ببناء دولة الإسلام، فكان أول من هاجر إلى المدينة من المهاجرين.
وكذلك فإن عبد الله بن أم مكتوم كان رجلاً ضريراً أعمى، ولكنه كان مستنير البصيرة، حي القلب، مقبلاً على الله محباً للخير، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم جاءه فآمن وصدق، ثم لم يزل يغدو عليه كل يوم يريد أن يتعلم من الدين كل ما ينزل وكل ما يتجدد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواعد بعض علية القوم من المشركين الذين يأتون لمجادلته ويأتون للرد عليه، فكان من ردهم عليه أن يقولوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، وهذه سنة سالفة لمكذبي الرسل، فقد قالها مكذبو نوح عليه السلام، ثم لم يزل مكذبو الرسل يرددونها فيظنون أن المعيار في الفضل هو بكثرة المال والولد.
فيقولون: لم يتبعك الوليد بن المغيرة، ولم يتبعك العاص بن وائل، ولم يتبعك أبو حكيمة زمعة بن الأسود، ولم يتبعك عمرو بن هشام، ولم يتبعك عتبة بن ربيعة، وإنما اتبعك ضعفاء الناس وفقراؤهم.
وكانوا يرون أن هؤلاء لا يمكن أن يحصل منهم خير ولا نصرة، ولذلك قال عروة بن مسعود رضي الله عنه يوم الحديبية عندما قدم سفيراً عن قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إني أرى قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وما أرى معك إلا أشابه من الناس، جدير أن يفروا عنك ويتركوك! يظن أن أولئك القوم الذين ليسوا أكثر الناس مالاً ولا أولاداً ولا أكبرهم مكانة اجتماعية بين الناس، يمكن أن يتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن ينصروه، وهذا بمفاهيم أهل الجاهلية.
ثم إن عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت مجيء الوفد من قريش لمجادلته، فلما دخل عليه استحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوده مع أولئك القوم الذين يحتجون عليه بأنه لم يصحبه إلا الضعفاء، فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد التخلص منه في ذلك الوقت حتى يمضي علية القوم.
فعاتبه الله في كتابه في شأن ذلك الرجل الضرير فأنزل الله فيه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4].
زكى الله عبد الله بن أم مكتوم وجعله من خيرة الناس، فكان ثاني من هاجر إلى المدينة بعد مصعب بن عمير.
وقد ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في بضع عشرة غزوة كما في الصحيح، يوليه على المدينة وعلى إمامة المسجد النبوي والخطابة فيه؛ لأنه عاتبه فيه ربه سبحانه وتعالى، وشهد له وزكّاه.
ثم لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ضاقت الأرض بما رحبت بـ عبد الله بن أم مكتوم؛ لشدة محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحرص على الشهادة في سبيل الله ليلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بعث أبو بكر رضي الله عنه أول جيش إلى العراق تجهز ابن أم مكتوم وخرج فيهم، ولم يزل يقاتل ويتعرض للموت حتى كان يوم القادسية فدعا الأمير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: يا سعد إني رجل ضرير لا أرى شيئاً أرهبه فأعطني اللواء فلن أزال أتقدم حتى ألقى الله أو يفتح للمسلمين.
فأعطاه سعد الراية فما زال يتقدم بها والفرس بين يديه وعن يمينه وعن شماله لا يبالي بهم، حتى لقي الله شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
إن ذلك الجيل الأول رجالاً ونساء وكباراً وصغاراً حققوا من الأمثلة مثل هذا الذي حققه عبد الله بن أم مكتوم؟ فما منهم أحد إلا وقد كان أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له وتصديقاً بما جاء به، وقناعة بتحقق وعد الله الذي وعده به، ولذلك لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش قال: يا معشر قريش! لقد زرت النجاشي في ملكه، وكسرى في ملكه وقيصر في ملكه فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، فوالله إنهم حوله لكأن على رءوسهم الطير، وإذا امتخط لم تقع مخاطته إلا في يد رجل منهم فيدلك بها وجهه ورأسه، وإذا تكلم أصغوا لكلامه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
فقد كانوا يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم التعظيم الذي أمرهم الله به في كتابه، فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:8 - 9].
فهذا خبيب بن عدي بن مالك الأنصاري خرج غازياً في بعث الرجيع فقاتل بني لحيان فأمسكوه أسيراً، وجلبوه إلى مكة وباعوه لقريش، فحبسته قريش بمكة حتى خرج الشهر الحرام ثم ذهبوا به خارج الحرم ليقتلوه، فلما نصبوا الخشبة ليصلبوه عليها، تقدم إليه أبو سفيان بن حرب فقال: يا خبيب أتحب أن ابننا محمداً عندنا نقتله وأنك في قومك في عزك ومكانتك؟ فانتفض خبيب وقال: والله الذي لا إله غيره ما أحب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بشوكة في مكانه الذي هو فيه، وأنجو أنا من القتل والصلب، وأعلن أبياته منشداً لها في قوله: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع وسأل الله أن يبلغ سلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله ملكاً يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام خبيب وما لقي، وأن الله سبحانه وتعالى رضي عنه وأرضاه.
وكذلك فقد كان كل فرد من أفرادهم حريصاً على أن يكون من الذين يمكرون في أهل الجاهلية، ومن الذين يعلون كلمة الله بكل ما يستطيعون، ولذلك عجب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوم بدر عندما ابتدره الفتية الصغار من الأنصار يقولون: يا عم إذا رأيت أبا جهل فأرناه، فيقول: وما حاجتكم إليه؟ فيقول كل فرد منهم: أريد أن أكون أنا الذي أقتله لما أعرف من عداوته لله ولرسوله، فيعجب عبد الرحمن بن عوف من هؤلاء الفتية الصغار الشباب الذين يحرص كل واحد منهم أن يكون هو الذي يقطع رأس الكفر، ويزيله بالكلية.