من الأخلاق التي ينبغي أن يأتسي بها من سلك هذا الطريق أن يعلم أن العلم ينقسم إلى قسمين: علم ينفع في الدارين، وعلم ينفع في إحداهما فقط.
فعليه أن يبدأ أولاً بالعلم النافع في الدارين، وألا يهمل العلم النافع في إحداهما، خاصة أنه قد يكون فرضاً كفائياً على الأمة، بل قد يتعين على بعض الناس، كما إذا لم يطمح له سواه، وعلى هذا فإن الذين يشتغلون بطلب العلم عليهم ألا يتحجروا، وألا يقفوا وارء الكتب التي يدونها أسلافهم ويجعلونها مناهج دراسية فلا يطلبوا ما زاد على ذلك، بل عليهم أن ينهلوا من ثقافات هذه العصور التي هم فيها، وأن يختاروا منها خيرها، وأن يكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فحينئذ سيؤتيهم الله فرقاناً يميزون به بين الحق والباطل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، ومن كان له فرقان يميز به بين الحق والباطل أمن الفتنة -إن شاء الله تعالى- من كل ما يقرؤه.
وعلى الإنسان أن يتزود من ثقافة زمانه حتى يكون بذلك مستطيعاً للإفتاء فيه؛ فإن الفتوى مركبة من قضيتين: أولاهما قضية واقعية وأخراهما قضية شرعية.
فالقضية الواقعية هي أن هذه الصلاة كانت إلى هذه الجهة مثلاً، والقضية الشرعية أن الصلاة إذا كانت إلى هذه الجهة فهي باطلة، فكل حكم شرعي مركب من هاتين القضيتين: قضية واقعية وقضية شرعية، فمن عرف الشرع ولم يعرف الواقع لا يحل له الإفتاء؛ لأنه عرف أخرى القضيتين ولم يعرف أولاهما، ومن عرف الواقع فقط فكان فقيهاً فيه ولم يعرف الشرع أيضاً لا يحل له الإفتاء، فلابد أن يجمع الإنسان بين هاتين القضيتين: أن يكون مطلعاً على حال واقعه، وأن يكون مطلعاً على الحكم الشرعي حتى يستطيع تنزيله على الواقع الذي يعيش فيه.
كذلك فإن الله عز وجل عندما أمرنا بالتعلم أطلق ذلك، كما في قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفاد بعض التجارب حتى من الأمم الكافرة، فاستفاد تجربة فارس في الخندق، واستفاد تجارب أخرى من أقوام آخرين، فتجربة ختم الكتاب إنما استفادها من الروم، كما ثبت ذلك في الصحيح، وكذلك غير هذا من التجارب المفيدة النافعة التي كان يأخذها من حضارة الأمم الراقية، فعندما بلغه أنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً اتخذ خاتماً، فكان يختم به كتبه، فكل ما هو نافع ينبغي أن لا يترك، وأن لا يختص به أعداء الدين، ومن هنا فإن الجدلية التي سادت بعض بلداننا في حقبة من التاريخ أدركنا آخرها كانت بين فريقين من الناس: الفريق الأول: قوم يلتزمون بالماضي، ويعيشون على المساطر السابقة، ولا يريدون التجديد في أي شيء، ويرون أن الجديد من حيث هو مردود شرعاً، فهؤلاء هم المتحجرون، وضرر تحجرهم أكثر من نفعه، وقد أخروا مسيرة الدعوة، وأخروا مسيرة العلم في بعض البلدان تأخيراً كبيراً، ولذلك فإنهم هم المثقفون في وقت مجيء الاستعمار، وهم المثقفون في وقت ذهابه، ولم يكن لهم دور في دفعه وقتاله ولا في تبوؤ مكانه بعد ذهابه، فأخروا هذه الدعوة زماناً طويلاً.
الفريق الثاني: شباب تربوا في أحضان الاستعمار ونهلوا من ثقافته، لكنهم رغبوا في الجديد أياً كان، وأنفوا من القديم أياً كان، فأهملوا الجانب الشرعي، فلذلك كانوا جيلاً فاسداً، وما زال كثير من أفراده يعيشون بيننا، ونحن نشهد تلك الأجيال التي عاشت في آخر أيام المستعمر وفي أول زمان ذهابه، وهي من أسوأ طبقات المجتمع في الالتزام الشرعي وفي العلم، ولم تستفد العلم الذي كان لدى الأسلاف، ولم تستفد التزاماً ولا دعوة كما حصل بعد حصول هذه الدعوة المباركة، فكانت برزخاً وسطاً بين جيلين من الناس، ولذلك تجد أن كبار السن وصغار السن هم أحسن هذا المجتمع، فكبار السن -على الأقل- معهم علم والتزام ودين، وصغار السن معهم حرص على العلم، وحرص على الدعوة، والتزام بما علموه مما سمعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين هاتين الطائفتين طبقة متوسطة، لا هي أخذت بما كان عليه السابقون، ولا هي أتت بما جاء به المشددون، ومن هنا قال أحد العلماء: شكا دين الهدى مما دهاه بأيدي جامدين وملحدينا شباب يحسبون الدين جهلاً وشيب يحسبون الجهل دينا وكذلك قال آخر: أشكو إلى الرحمان من دهر غدا قد قلّ من تلقاه فيه على هدى فذوو الهداية لا ثقافة عندهم وذوو الثقافة ناكبون عن الهدى والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.