كذلك فإن عليهم أن يقنعوا بما آتاهم الله تعالى، وأن لا يذهبوا إلى أبواب السلاطين، فقديماً قيل: إذا أراد الله فتنة العالم ألزمه أبواب السلاطين.
ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله تعالى إذا دعاه أحد الأمراء أن يأكل في بيته امتنع أن يأكل في بيته أو أن يشرب، فقيل له في ذلك فقال: من أكل مرقة السلطان افترق لسانه عن قول الحق، فلا يستطيع أن يقول الحق بعد ذلك.
وقد حصلت قصة واقعية لعالم من علماء دمشق، وهي أنه كان يدرس في جامع بني أمية، فدخل عليه إبراهيم باشا، وهو ملك مصر، وكان قد استحوذ على الشام، ولم يجد من يعارضه، وقويت شوكته وسلطانه بذلك، فلما دخل دمشق منتصراً استقبله الناس، فبقي هذا العالم في مسجد بني أمية يدرس الناس، فسأل إبراهيم عمن لم يستقبله من وجوه الناس وعلمائهم وقاداتهم فذكروا له هذا العالم، فقال: اذهبوا بنا إليه.
فجاء مغضباً، فدخل مجلسه فلم يقم إليه، وإنما سلم عليه واشتغل بالتدريس، فجلس إبراهيم قبالة وجهه، وأوسع الناس له في الحلقة، فلما طال مجلسه بسط الشيخ رجله إليه -وهذا عيب عند أهل الشام، وأهل مصر ينزعجون منه كثيراً-، فبعد أن خرج الأمير إلى بيته أرسل إلى هذا العالم مالاً جزيلاً كثيراً، فلما أتاه هذا المال رده وقال: قولوا للأمير: إن من يمد رجله لا يمد يده! فالذي يمد رجله لا ينبغي أن يمد يده، فلذلك عليهم أن يقنعوا بخلق من يرثونه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً)، وعرض عليه أن يكون نبياً ملكاً، وأن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعاش على ذلك، فقد كان الحصير يؤثر في جنبه، وقد عاش هذه الحياة حتى نقله الله إلى دار الكرامة، وقد كان يمضي الشهر والشهران والثلاثة ولا توقد في بيوت آل محمد نار، فهذا كافٍ ومقنع لهم، وعليهم أن يلزموه.