الجناح الرابع من هذه الأجنحة هو: الفهم، وهذا الفهم قسمان: قسم فطري خلقي، فالقرائح يخلقها الله كما يخلق أبدان الناس، فيركب في كل إنسان منها ما شاء، والقسم الثاني: مكتسب، فالإنسان بربطه بين المعلومات بتسلسلها، ومجالسته للناس، وازدياده من العلم يزداد فهماً فيه؛ ولذلك فإن كثيراً من الذين كانوا من أهل العلم في المرويات إذا وصلوا إلى التطبيق يقعون في أخطاء، ما لم يشاهدوا أهل التطبيق، فـ أبو حنيفة رحمه الله -وهو من هو في جلالة قدره في العلم، وكان سيد أهل العراق وإمامهم في عصره-ذهب إلى مكة يريد الحج، فجاءه طفل صغير من أهل مكة، فقال له: هل لك فيمن يدلك على مناسكك مقابل درهم أو شيء يسير جداً؟ قال: لا حاجة بي إليك، فجعل الطفل يتبعه، فلما دخل المسجد الحرام أراد أن يحيي المسجد بركعتين، فقال الطفل: ما أجهل هذا الشيخ بالسنة! ألا يعلم أن تحية مسجد مكة الطواف؟ فكانت واحدة.
ثم بعد هذا أراد الطواف فما عرف من أي أركان البيت يبدأ، ما عرف ركن الحجر، فجاءه الصبي فقال: ما أجهل هذا الشيخ بالسنة! ألا تدري أن الطواف يبتدئ من ركن الحجر؟! ثم بعد أن أنهى الطواف أراد أن يذهب إلى الصفا فما عرف مكان الصفا، فإذا بالصبي هو الذي يدله على ذلك، ثم كان يظن أن السعي مثل الطواف، الشوطان شوط واحد، من الصفا إلى الصفا شوط واحد، فدله الصبي أن الشوط من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر.
ثم بعد أن أنهى سعيه جاء إلى الحلاق، فجعل يساومه بكم يحلق له، فالصبي دله على أن هذا من الأمور التي لا تنبغي المساومة فيها، فهو نسك وعبادة، فكانت الأخرى.
ثم ولاه جانبه الأيسر فقال له الصبي: وله جانبك الأيمن، ففعل، فأعطى الصبي المبلغ وأضعافه؛ لأنه دله على هذه الأمور التي كان يجهلها من ناحية التطبيق، مع أنه عالم بها وبتفاصيلها، لكنه من ناحية التطبيق خفيت عليه، فاستفاد من علم هذا الصبي الصغير.
وجانب الفهم المكتسب يزيده التعبد لله سبحانه وتعالى، فالإكثار من ذكر الله يزيد البصيرة نوراً، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لتستغلق علي المسألة فأجلس وأذكر الله فتفتح لي، وكان يجلس فيكثر من الاستغفار إكثاراً شديداً ويقول: يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، فيسهل ما استغلق عليه من المسائل.
فهذا الفهم المكتسب من أسبابه التعلم والمراجعة والمذاكرة ومجالسة أهل العلم، والتطبيق للمسائل العلمية.