وكذلك على الولد أن يفعل ما أمر الله به من التأدب فيما يتعلق بحق الوالدين، من خفض جناح الذل لهما من الرحمة، فيكون بين يديهما مأموراً ينتظر الأمر، ويحب أن يؤمر بأيّ أمر حتى لو كان شاقاً؛ ليبادر إليه، فهذا هو سبب دخول الجنة، وهو الذي أرشد الله إليه، وبين في كتابه عظمه وأهميته، حيث عطفه على الإيمان به {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وفي الآية الأخرى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وغير ذلك من الآيات الصريحة في هذا الأمر.
فهذه كلها تقتضي أن يخفض الولد جناح الذل من الرحمة لوالديه، وأن لا يخاطبهما إلا بأبين عبارة، وأن لا يرفع عليهما الصوت، وأن يكون ذليلاً بين يديهما، يأمرانه بما يشاءا، فهذا الذي ينبغي للولد أن يكون عليه مع والديه.
وإذا كان الأمر كذلك تحسس الولد ما يرضي والده، وبحث عنه حتى ولو لم يأمره به، وتحسس كذلك ما يغضب والده، فيفر منه ويجتنبه حتى ولو لم ينهه عنه، وإذا حصل ذلك حصل التآلف في الأسرة، واجتماع الكلمة، وحصل فيها من محبة بعض أفرادها لبعض الشيء الكثير.
وقد رأينا عجباً من هذا، فقد رأيت رجلاً كان يسكن في هذه المدينة وكان من التجار، وكان أبوه شيخاً كبيراً هو سيد قبيلته، وكان الولد من أصغر أولاده، لكنه كان أبرهم به، فكان الولد يسارع إلى كل ما فيه بر لوالده، فيقول الوالد: إنه يسبقني إلى مرادي، فيأتي بالشيء الذي أريده قبل أن أفكر فيه؛ وهذا من شدة بره به.
وكان الوالد بعد هذا إذا رأى أحداً من أصدقاء ذلك الولد قام بخدمته؛ من شدة محبته لذلك الولد، وكان الوالد كحال شيوخ أهل البادية، قد لا يفهمون أو لا يستوعبون كثيراً من أمور الدعوة أو كثيراً من تفاصيل الأمور، لكنه كان إذا قيل له: إن ابنك محمد محمود في هذا الأمر، قال: محمد محمود لن يكون إلا فيما هو خير في الدنيا والدين.
وقد توفى الله هذا الرجل -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- فكان أبوه بعد ذلك إذا رأى أحداً من الذين كانت بينه وبينهم علاقة يقول: هذا من أصحاب محمد محمود، ومحمد محمود لا يصحب إلا الصالحين، كان أبوه يشهد له بهذا فيما بعد.
وهذا يدلنا على أن الخلاف الذي يحصل بين الوالد وولده سببه نقصان البر، فإن كان الولد براً بوالده فسيحب له ما يحب، وسيبادر إلى مرضاته، والتأثير في عقلية الوالدين ميسورة سهلة، فقد جبلهما الله على الرحمة، لكن على الولد أن لا يتعجل، وأن لا يبادر إلى المخالفة، بل عليه أن يتقرب إلى الوالدين، وأن يجعل نفسه أشد أولادهم براً، وإذا حصل على ثقتهما فلن يخالفاه في أيّ شيء يريده بعد ذلك.