أما الصلة من ناحية الصهارة فهي أقل من ذلك، فأصهار الإنسان أقارب الزوج أو أقارب الزوجة يدخلون في هذا الرحم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل النكاح سبباً لحصول الرحمة والشفقة، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فهذه المودة والرحمة التي تحصل بسبب الصهارة مقتضية للصلة والإحسان.
ولذلك صح في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح شاة قال: أرسلوها إلى أصدقاء خديجة)، وكان صلى الله عليه وسلم يحسن إلى أقارب خديجة، فقد كان ذات يوم مضطجعاً في فراشه يريد أن ينام، فدخلت امرأة فسمع سلامها فتهلل، وقام مرحباً بها، فسئل عن ذلك، فقال: (إنها كانت تأتينا في زمان خديجة).
وفي حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها حين هجرت عبد الله بن الزبير ابن أختها ذهب فأتاها بقوم من وجوه بني زهرة -وكانت عائشة ترحمهم وتحنو عليهم لمكانهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فبنوا زهرة أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فرضيت عنه بشفاعتهم.
وكذلك ما يتعلق بالبعد في المسافة، فإن الرحم إذا ابتعدت عن الإنسان فإن صلته لها ستكون بحسب الذكر والقدرة، وبحسب ما يتمكن للإنسان، ولذلك أخرج ابن هانئ في مسائله: أن رجلاً أتى الإمام أحمد بن حنبل، فقال: إن لي رحماً، وإني مرابط في الثغر، وإنه في مكان ناء قاص، أترى أن أذهب إليهم فأصلهم أم أرجع إلى الثغر الذي كنت فيه فأحمي ثغور المسلمين؟ فقال له أحمد: استخر -أي: صل الاستخارة- ثم قال له: اذهب إلى ذوي رحمك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشد من استأمره في الجهاد، فقال: (ألك والدان؟ فقال: نعم، قال: فيهما فجاهد)، فدل هذا على تقديم صلة الرحم.
وقال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن أحب الأعمال إلى الله: (إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ أو قال: ثم مه يا رسول الله؟ قال: صلة الرحم)، فهي التي تلي الإيمان بالله في حبها إلى الله سبحانه وتعالى، فإن أحب الأعمال إليه الإيمان به ثم صلة الرحم.
والذين يصلون الرحم بالمال فقط دون أن يصلوهم بالسؤال أو الزيارة أو المحادثة أو التلطف، هؤلاء وصلهم ناقص، فإنهم لم يؤدوا الحق في كل ما افترض عليهم الحق فيه، ولذلك لابد من إشراك ذوي الرحم في جميع ما أوتي الإنسان من أنواع الخيرات، فيشمل ذلك الوقت والزيارة، وكثير من الأرحام صلتها ليست ببذل المال لها، فقد يكون ذو الرحم غنياً عنك، ولكن الصلة بالزيارة والسؤال عن الحال والاتصال، حتى يشعر بأن تلك الرحم مؤداة الحق وأنك لا تمل الاتصال بها، فإن شعور ذي الرحم بالملل مدعاة لخبث النفس، ولذلك يقول صخر بن عمر الشريدي: أرى أم عمر لا تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني وأيّ امرئ ساوى بأم حليلة فلا عاش إلا في شقا وهوان فعلينا أن نراجع أنفسنا، وأن نحاسبها في معاملة ذوي الأرحام، ففي واقعنا هذا نجد أن كثيراً من الناس يقطعون أرحامهم بالكلية، فيحبون أن لا ينسبوا إلى أحد، وأن لا ينتسب إليهم أحد، وأن لا تكون بينهم وبين أحد من أقاربهم علاقة، فيقطعون أشد الناس حقاً عليهم من الوالدين والإخوة والأخوات ويهجرونهم بالكلية! وما ذاك إلا خشية أن يشركوهم في شيء مما آتاهم الله، وهذا نظير الوأد الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه.