ومع هذا فإن هذه الدعوات المختلفة لم تشهد وقتاً كانت آكد فيه من وقت مجيء المستعمر الكافر، عندما جاءت فرنسا بأساطيلها تجوب الأرض لاستعمارها، في وقت وصفها عبد الله الأسيطي، في مقدمة كتابه بقوله: وجنادع الروم تجوس وراءنا الأغفال وروعاتها تبين الحواصل الأحبال وهذا وصف دقيق لجيوش الروم في بداية غزوها لهذه البلاد، وإقامتها لمؤسساتها، واستعمارها لهذه الأرض، فلما جاء المستعمر أراد أولاً أن يتصل بأمراء القبائل، فدعوا بعض الأمراء ومنهم: أحمد سالم اللألي وغيره، فقالوا: نحن نريد أن تتفقوا معنا على الحماية، وعلى أن تكونوا خاضعين للدولة الفرنسية، ونحن نقيم بينكم العدل، ونحمي لكم دينكم، ونمنع أيّ فساد يقع، فقال: إني لا أجرؤ على هذا، أخاف أن يكفرني أهل الزوايا، فقالوا: ومن يجرؤ عليه؟ قال: لا يجرؤ عليه إلا رجلان لا يستطيع أهل الزوايا تكفيرهم، فأشار عليهم بالشيخ بابا بن الشيخ سديه والشيخ سعدبوه بن الشيخ محمد فاضل بن الشيخ بن مامي.
فالتقى المستعمر بهذين الإمامين، فكان رأيهما قد اتفق على أن أي إصلاح يراد في هذه الأرض لا يمكن أن يتم تحت تلك الظروف والوضعية التي تشهد فيها القبائل إغارات بعضها على بعض، والظلم سافر بين الناس، وأيضاً قد تخلص الناس فيها من كل وسائل النظام، فلم يعد هناك رمز للنظام يمكن الالتفاف حوله، وكان الشيخ بابا بن الشيخ سديا من قبل هذا يسعى لأجل لم شتات الناس وإقامة دولة، ولكنه لم يستطع لكثرة الحروب الأهلية، وكثرة الإغارات بين الناس، فاجتهد هذان الرجلان اجتهاداً قد يكون مصيباً وقد يكون خاطئاً، وقد يكون وسطاً له حظ من الصواب وله حظ من الخطأ، فاتفقا على أن يأذنا للمستعمر في دخول هذه البلاد، وشرطا عليه اثني عشر شرطاً، واتفقا عليها.
وكان جمهور العلماء مخالفين لهذين الرجلين، وأعلنوا الجهاد حتى من غير إمام، ومن غير أمير، ومن غير خليفة، فجاهدوا النصارى جهاداً مستميتاً، وسعوا في حث الناس على الهجرة، وكان اختلافهم في ذلك خلافاً فقهياً مبنياً على القواعد، فـ الشيخ بابا بن الشيخ سديه وكذلك الشيخ سعدبوه يريان أن ارتكاب أخف الضررين والحرامين أولى، وأن التغيير والإصلاح الذي يريدانه لا يمكن أن يتم تحت الظروف الحالية، والمستعمر لا طاقة لهم بقتاله وهم فيما بينهم متناحرون، وأنه إذا أقام لهم الهياكل استطاعوا أن يطردوه عن طريق السياسة والرأي، وذلك أن هذين الرجلين كانا قد اطلعا على أخبار الدول الأخرى، وكانت تصل إليهم الجرائد فيطلعان على أوضاع الناس، وعلى تشوف بعض الدول للحرية في ذلك الوقت، ورأيا أن المستعمر ليس له مستقبل مستمر في استعمار البلاد والبقاء فيها، أما غيرهما من العلماء فقد رأوا أن هذا المستعمر الكافر يجب جهاده بكل ما يملكه أهل هذه البلاد من قوة، وأنه لا يمكن أن يصمد أمام قوة لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ودعا إلى الجهاد الشيخ وكذلك الشيخ محمد العاقب بن معيابا، وقام الجهاد في سبيل الله تعالى، وكانت عدتهم بسيطة جداً، وكان عدد أهله قليلاً جداً، ومع هذا وقف في وجه المستعمر وقفات عجيبة! وأنال الله تعالى به -الذين سعوا إليه- عزاً عجيباً! وهذا يدلنا على أن الرأي والصواب كان مع هؤلاء، ولذلك فإن محمد العاقب بن معيابا لما أرسل أرجوزته لأهل البلاد التي خضعت للمستعمر، أوجب فيها عليهم أحد أمرين: قال: أنتم بين قوي وضعيف، فالضعيف تجب عليه الهجرة، والقوي يجب عليه الجهاد، ولا عذر لكم في غير هذين الأمرين، وهي التي يقول في مقدمتها: مني إلى من في حمى المكبل والمكبل: يقصد به في ذلك الوقت كابولاني، وهو القائد النصراني في ذلك الوقت، يقول: مني إلى من في حمى المكبل من لما وراء العقل وأعيذكم بالله من فضيحة الدنيا ومن رأيكم المفيل إلى أن يقول في وصف النصارى: خيبتهم لخوبا والكبت لكابتين والتكبيل للمكبل ودعاهم في القصيدة للجهاد في سبيل الله، فقاموا بغارات شهدت توفيقاً عجيباً! وانتصروا فيها وغنموا، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي أخرجه أبو داود وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك والبيهقي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، والمقصود بدينكم هنا: الذي يطلب منكم الرجوع إليه وهو الجهاد في سبيل الله، انظروا إلى قوله: (وتركتم الجهاد) هذا هو الدين المتروك، (سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) معناه: حتى ترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله.
والجهاد وحده هو الذي تكفل الله تعالى لمن قام به بالهداية في آيتين من كتابه، فالله تعالى يقول في خواتيم سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، ويقول في سورة محمد: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
فهذا ضمان من رب العزة والجلال القادر المقتدر على نصرة من جاهد في سبيله، وعلى هدايته إلى سواء الطريق.