الجبهة الرابعة: نعم الله سبحانه وتعالى السابغة على الإنسان: فالإنسان يحيط به من نعم الله سبحانه وتعالى ما لا يستطيع إحصاءه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، نعمة الخلق والرزق والهداية والجوارح والعافية وغير ذلك من أنواع النعم التي لا يحصيها الإنسان، وهذه النعم الناس فيها على أربعة أقسام: القسم الأول: الذين لا يعرفونها بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فما دام أحدهم لا يشكو سرطاناً في كبده أو رئته، ولا يشكو قصوراً في عضلة القلب، ولا فشلاً في الكلى، ولا زمانة تعوقه عن الحركة، ولا ألماً في عضو من أعضائه، لا يستشعر هذه النعمة، فإذا زالت هذه النعمة تذكر ما كان فيه حين لا تنفع الذكرى، وما دام يجد غناه من أمور الدنيا، لا يتذكر نعمة الله عليه ولا يشكرها لله، ولا يدخر عند الله سبحانه وتعالى منها قرضاً حسناً، فإذا زايله ذلك وفارقه تذكره حيث يندم ولا ينفع الندم.
ومثل هذا إذا كان في وظيفة من الوظائف يمكن أن يقف فيها موقفاً مشرفاً يبيض الوجه يوم القيامة، ينصر به الله ورسوله، فلا يشعر بهذه الوظيفة ويقول: لابد من الهدوء حتى تذهب العاصفة، والعاصفة ستذهب به هو، فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وجلوسه في كرسي الوظيفة كجلوسه على كرسي الحلاق يحلق له ثم يقوم ليترك مكانه لغيره ونحو ذلك، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]، حالهم حال قارون الذي قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
لما ذكِّر بنعمة الله عليه قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، عرف النعمة بوجودها فافتخر بها وتسور على عباد الله، وعرف أنه متميز فعلاً، لكن لم يعرف من أين جاءته هذه النعمة؛ فلذلك لم يشكرها لله ولم تنفعه بين يدي الله شيئاً، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:81 - 83].
النوع الثاني: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فينشغلون بالأموال والأولاد والصحة والعافية والتمتع بملذات هذه الحياة، مع أنهم يعلمون أنها نعمة أنعم الله بها عليهم ولا يشكرونها لله، وهؤلاء حالهم حال الأعراب الذين حكى عنهم الله في قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11].
وقد حذر الله من هذا الاغترار فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
وقد بين الله عداوة ذلك إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:14 - 15].
والنوع الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون من أين أتت وأنها من عند الله، ولا ينشغلون بها عن شكرها، بل يستغلونها في مرضات الله وشكره: وهؤلاء هم الشاكرون وهم أقل عباد الله، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله سبحانه وتعالى لهم.
فهذه النعمة إذاً جبهة مفتوحة على الإنسان من حيث لا يشعر، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].