والله تعالى من فضله وكرمه أن أتاح للإنسان كثيراً من الفرص في مجال العبادات، من أعظم هذه الفرص فرصة النية، فالإنسان وقته محصور وجهده يسير لكن ينوي للعمل الواحد عشرين نية، فيكتب له عدد هذه النيات من الأعمال، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج فرأى كثيباً أهيلاً من الرمل فتمنى لو كان له مثله سويقاً فينفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة حسناته فإذا فيها كثيب أهيل من السويق، فقال: من أين لي هذا وما أبصرته عيناي قط؟ فقال: إنك مررت بكثيب رمل فتمنيت لو كان لك مثله سويق فتنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك).
ونية المؤمن أبلغ من عمله، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
وهذه النية يمكن أن تنمى وينمى بها العمل ويزداد، فإذا جاء الإنسان وأدرك الناس في أثناء الصلاة فإنه ينوي أداء هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، ثم ينوي كذلك الحفاظ عليها حين أمره الله بذلك، وينوي المحافظة على الصلاة الوسطى؛ لأن أرجح شيء فيها أنها صلاة العصر، وينوي كذلك تكثير سواد المسلمين، وينوي كذلك أن أجر خطاه إلى المسجد: فلا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة، وأن لا يمر على شيء إلا شهد له، وأن يعتدل في الصف كما تصف الملائكة عند ربها، وأن يحبس جوارحه عن المعصية ما دام في المسجد، وأن (يأتي لعلم يعلمه أو يتعلمه فيكون كالمجاهد في سبيل الله ويرجع غانماً) كما أخرج مالك في الموطأ، وأن يكون كذلك من الذين يتعرفون على الله في الرخاء حتى يعرفهم في الشدة، ومن الذين يتعرفون على ملائكة الله الذين يستغفرون لعباده وهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن يكون كذلك من الذين يترهبون بعمارة المساجد ولو لحظة، وأن يلتمس دعاء المسلمين في المساجد، وأن يكون من عمارها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18]، وأن يكون كذلك من الذين يلتمسون بركة الذين يعمرون هذه المساجد من الملائكة ومن صالحي الإنس والجن، فدعواتهم وأخلاقهم ومجالستهم تغفر بها الذنوب كما في الحديث الصحيح: (أشهدوا أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
كذلك نية تحية المسجد، إذا جاء الإنسان ووجد الإمام في أثناء الصلاة، فهذه الفريضة بالإمكان أن ينوي بها السنة، فينوي بها أيضاً تحية المسجد فتحسب له صلاة أخرى زائدة على أصل ذلك.
كل هذه النيات تكتب أعمالاً مستقلة في ميزان الحسنات الذي توزن فيه مثاقيل الذر وهي أصغر شيء: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].