الشفاعة في الدنيا هي الشفاعة عند الله تعالى في الوصول إلى الحقوق؛ وهي باستجابة الدعاء، وهذا لكل الرسل وللصالحين من عباد الله تعالى، وللملائكة المقربين فإنهم يشفعون للمؤمنين، وقد جاءت في ذلك آيتان إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة.
فالمطلقة قول الله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5].
والمقيدة في قوله تعالى في سور المؤمن: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9].
فدعاء الملائكة لأهل الأرض مختص بالذين آمنوا واتبعوا.
كذلك الشفاعة بالدعاء للمطر ونحو ذلك، وقد كان الناس يلجئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، فيدعو لهم فينزل المطر، ولذلك سره صلى الله عليه وسلم حين أتاه رجل وهو على المنبر كما في حديث أنس فقال: يا رسول الله! هلكت البهائم وانقطعت السبل، فادع الله لنا أن يسقينا، فاستسقى وما في السماء قزعة فرأوا غمامة من قبل سلع، وجاء المطر واستمر أسبوعاً ثم جاء الرجل وهو على المنبر في الجمعة الأخرى يستصحي، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (من يحفظ قول أبي طالب؟) فأنشده أبو بكر رضي الله عنه قول أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل ومن هذا النوع استسقاء عمر بدعاء العباس، كما أخرج البخاري ذلك تعليقاً في الصحيح، فهذا الاستشفاع بدعاء الناس في الدنيا من قبيل الشفاعة؛ لكن من قبيل الشفاعة الدنيوية فقط، وإنما يختار له من يدعو ممن يظن به الخير ممن يعرف بذلك، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب إذا أتاه أويس القرني أن يسأله أن يستغفر له.
والشفاعة العامة هي أعظم الشفاعات، وهي المقام المحمود الذي وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون هو مقام الشفاعة، وهي المنزلة الرفيعة التي ادخرها الله لعبد عنده، وقد رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هو، فحقق الله له ذلك، وهذه الشفاعة هي مقصود الشيخ في قوله: كذا من الذي اصطفي به الشفاعة لأهل الموقف وأهل الموقف هم أهل المحشر، وسمي موقفاً لوقوف الناس أجمعين؛ لأن الناس حينئذ يقومون لرب العالمين، ولا يجلس أحد منهم من هول الموقف، ويطول بهم الوقوف حتى يذهب عرقهم في الأرض كثيراً، وحتى يلجمهم العرق ويتفاوت الناس في ذلك بحسب أعمالهم، منهم من يصل العرق إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه إلجاماً.