قال: (والنبي العربي خاتِمهم أعلاهم في الرتب)، أي: أعلاهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى، وذلك لسيادته عليهم أجمعين، فإنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وقد صلوا جميعاً خلفه ليلة الإسراء، وهو الشافع لهم أجمعين يوم القيامة، فيدخل في شفاعته الأولون والآخرون؛ ولذلك فإن عبد المطلب حين سماه محمداً، قيل له: أتسمي ولدك باسم لا يعتاد في آبائك ولا في قبيلتك فقال: رجوت أن يحمده الأولون والآخرون، فحقق الله رجاءه بالشفاعة الكبرى التي يحمده فيها الأولون والآخرون، فآدم ومن دونه يدخلون كلهم في شفاعته.
وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، وكذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم عندما قال له رجل: (يا خير خلق الله، فقال: ذلك إبراهيم)، فإن للعلماء محامل لذلك، فقد حملوا قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، على أنه لا ينبغي التفضيل المقتضي للإزراء، بل الرسل أجمعون يجب توقيرهم واحترامهم، وعدم الإزراء بأحد منهم ولا بمنزلته، فالإزراء بمنزلة أي واحد منهم كفر؛ ولهذا لا يحل أن يوصف أحدهم بوصف مستبشع ولا بما يقتضي نزول منزلته أو نقص درجته، وليس المقصود النهي عن ذكر فضله صلى الله عليه وسلم؛ لكن إذا ذكر فضل الرسل ثم ذكر فضل النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا نهي فيه.
وكذلك قوله للرجل الذي قال له: (يا خير خلق الله، فقال: ذلك إبراهيم)، فإن هذا كان قبل أن يطلعه الله على اختياره للخلة، فقد أخبره الله أنه اختار إبراهيم خليلا: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]؛ لكن إنما علمه هو باختياره صلى الله عليه وسلم للخلة بعد هذا، ودليل ذلك إخباره به، فقد أخبر أن الله أطلعه على أنه اتخذه خليلا، وقال: (لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله).
والخلّة أعلى منزلة في البشر؛ لأنها تقتضي أن لا يبقى في قلب الإنسان مكان للمحبة إلا محبة الله، فلا يكون الإنسان خليلاً لله حتى لا يبقى في قلبه أي مكان لمحبة أي شيء غير الله؛ ولذلك اختص الله بها إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم.
ولذلك قال الشيخ هنا: (أعلاهم في الرتب)، وذكر أفعال التفضيل المقتضية للاشتراك؛ لأن أفعال التفضيل لا تفاضل إلا بين مشتركين في الوصف، فكل الرسل عليهم الصلاة والسلام عالي الرتبة؛ لكن أعلاهم رتبة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أخذ الله عليهم العهد أجمعين أن يؤمنوا به.