لكن إذا أطلق النبي العربي اختص ذلك بالنبي العربي صلى الله عليه وسلم لمنزلته وجلالة قدره.
قال: (والنبي العربي خاتمهم)، أي: خاتم الرسل، فختمهم الله به، وحكمة ختم الرسل أن الله سبحانه وتعالى اختار للبشرية ديناً واحداً هو دين الإسلام؛ ولكنه علم أن هذه البشرية ستمر بكثير من المراحل في أطوار حياتها، كما في دعوة نوح: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14]، فتمر البشرية بكثير من الأطوار: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19].
ومن هنا فلو أنزل إليها الدين وأمرت به في الأطوار والأطباق الأولى في حياتها في الأرض، لكان فيه الكثير من العناء، فلو فرضت هذه الشريعة التي لدينا اليوم على أولاد آدم لحصل كثير من العناء مثل تحريم نكاح الأخوات، والبشر إذ ذاك أسرة واحدة هي ذرية آدم فقط وهكذا.
فكانت الشرائع ينزل منها في كل زمن ما يصلح لذلك الزمن، وفي علم الله أنه لا يصلح للتطبيق المستمر، حتى إذا أتمت البشرية أطوار حياتها وبلغت نضجها أرسل إليها الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الذي كانت كل الأديان إعداداً له كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فختم الديانات بهذا الدين، وأتمه وارتضاه للبشر كلهم؛ ولذلك خاطب البشر بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
ومع ذلك فما يجد من الظروف راعاه الله سبحانه وتعالى في التشريع؛ ولذلك قال بعد ختم الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، بيَّن الحلال والحرام لكن مع ذلك بعد إكماله للدين قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ)، أي: في جوع ونحوه مما يقتضي ضيق الحال: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) غير منتهك له: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ومثل هذا قوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، ومن هنا جعل القواعد العامة والأسس الواقعة كفيلة بالتطور المستمر، فلا يمكن أن يتحجر التشريع ولا أن يقف عند حدّ معين، بل سيواكب مسيرة البشرية كلها، لعموم هذه القواعد وشمولها، ولله تعالى حكمة في كل جزئية منها.
وختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم من المعلوم بالدين بالضرورة، فكل من ادعى النبوة بعده فإنه يكفر بذلك ويستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وفي قراءة أخرى: (وخاتِم النبيين) ومعناهما واحد؛ لأن الخاتَم والخاتِم معناهما: المكمل.