والإيمان بالوحي مراتب: أولاً: الإيمان بوجوده؛ لأنه حق.
ثانياً: الإيمان بما حصل منه تفصيلاً من الكتب المنزلة.
ثالثاً: الإيمان بأنه من عند الله سبحانه وتعالى وحده.
رابعاً: الإيمان بأنه غير مكتسب وإنما هو اختيار رباني.
فمن أقر بوجود الوحي وأقر بأنه من عند الله، وأقر الموجود منه لكنه جوز اكتسابه فهو كافر، مثل بعض الفلاسفة الذين يجوزون اكتساب النبوة، فالنبوة ليست مكتسبة وإنما هي اختيار رباني يختار الله لها من شاء من عباده.
ولهذا الوحي صور كثيرة أوصلها العلماء إلى ثلاث عشرة صورة، وأصلها الثلاث المذكورة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] والمقصود بذلك رؤيا النوم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (منامات الأنبياء وحي) والمقصود بذلك أحلامهم.
ولهذا فإن منامات الناس عموماً فيها نسبة من ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء النبوة) لأنها إلهام رباني يلهم الله به الإنسان أمراً.
القسم الثاني: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، مثل كلامه لموسى عليه السلام، ومثل تكليمه للملائكة، فإنهم يسمعون كلامه من وراء حجاب، ولذلك إذا تكلم سبحانه وتعالى أخذت قلوبهم، ثم إذا كمل كلامه فزع عن قلوبهم: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23].
وكذلك فإنه يكلم الناس أجمعين يوم القيامة، فأهل الإيمان يكلمهم كلام الرحمة: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وفي حال الحساب كذلك: (ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان).
وأهل الكفر لا يكلمهم كلام رحمة، ولذلك قال: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77] لكنه يكلمهم كلام عذاب، فيخاطبهم بالتقريع، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
القسم الثالث: هو قوله: {أَوْ يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وفي القراءة الأخرى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذا الرسول من الملائكة، والوحي عن طريق الملك هو أكثرها.
وهذا أيضاً أنواع: فمنه ما يكون على وجه التمثيل فيتمثل الملك رجلاً فيكلمه، ويأتي هذا على صور كثيرة، منها ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان يأتيه جبريل في صورة دحية الكلبي، وقد يأتيه وهو لا يعرفه كحديث جبريل في سؤالاته، وقد يأتيه ملكان فيسأل أحدهما الآخر عن شيء مثل حديث السحر، ومثل حديث: (اضربوا له مثلاً) ومثل حديث الصعود به إلى السماء وما رأى من المعذبين من أصحاب الذنوب، وغير ذلك من الأحاديث، فهذه كلها أنواع من أنواع الوحي.
وقد يكون أشد من ذلك مثل صلصلة الجرس، أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي عنه ما يقول، وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، قالت عائشة: ولقد رأيته يفصم عنه في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا).
ومن أنواع الوحي الكتابة: فإن الله سبحانه وتعالى يكتب صحفاً وألواحاً لبعض أنبيائه، فقد كتب التوراة بيمينه لموسى في الألواح، وكذلك أنزل الصحف على إبراهيم وموسى، وكذلك الإنجيل والزبور كلاهما نزل في صحف، فهذا نوع من أنواع الوحي.