الوسيلة الثالثة: علو الهمة، فمن كانت همته متدنية اشتغل بما اشتغل به أبناء الدنيا من الحرص على جمعها والحصول على ملذاتها، ولم يكن ليتجرد لطلب العلم وللزوم المشاق، فإنما يصل إلى المشاق من كان من ذوي الهمم العالية، كما وصفت الخنساء أخاها صخر بن عمرو بن الشريد السلمي: أعينيَّ جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا رفيع العماد طويل النجا د ساد عشيرته أمردا إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه اليدا فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدا مصعدا يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى وكما قال زياد بن حمل في وصف أحد أصدقائه: إلى المكارم يبنيها ويعمرها حتى ينال أمورًا دونها قحمُ فمن كانت همته عالية يتجشم الأمور حتى ينال أمورًا لا ينالها إلا المقتحمون.
وهذه الهمة العالية هي التي ميزت ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روي عنه أنه قال: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في العاشرة من عمري، فذهبت إلى لدة لي من الأنصار فقلت: إن الله قد قبض نبيه صلى الله عليه وسلم وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلنا نسد لهذه الأمة يومًا مسدًا تحتاج إليه، فقال: ومتى يحتاج إلينا؟ دعنا نلعب، فذهبت وتركته).
وما هي إلا سنوات يسيرة حتى أصبح ابن عباس عضوًا في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وأصبح عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه: (فتى الكهول) و (ترجمان القرآن) ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: بلغت لعشرٍ مضت من سنيِّـ ـكَ ما يبلغ السّيد الأشيب فهمُّك فيها جسام الأمور وهمُّ لداتك أن يلعبوا ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ بمنتظماتٍ لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع لذي إربةٍ في القول جدًا ولا هزلا والهمة العالية هي التي تقتضي من الإنسان أن يحرص على معالي الأمور وعلى الازدياد من العلم.
وتكميل المطاف فيه.