قال: (أنشأ خلقه)، وهذا لا يخالف فيه إلا الفلاسفة؛ فإنهم يرون أن الهيولي كانت موجودة قبل نشأة الخلق، والهيولي يطلقونها على مادة الكون، فيرون أن الكون من مادة كانت موجودة قديماً فأخرج الله منها هذا العالم كله، ومن هنا يرون قدم العالم، وقد كفروا بذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه خلقه، ولا يمكن أن يخلق ما كان موجوداً لأن تحصيل الحاصل محال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16].
وهؤلاء الذين يزعمون الهيولي أخذوا ببعض الشبه في فهمهم من القرآن، منها قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فيقولون: كانت مادة السماء الدخان، وكذلك قالوا: كان عرشه على الماء، فهذا دليل على أن الماء سابق، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].
لكن الإجابة عن هذه الشبهات بأن الله سبحانه وتعالى يقلب مخلوقاته فيخلق الشيء على صورة أولاً ثم ينقله لناحية أخرى، وهذا أبلغ في الإعجاز، فيخرج الشيء من ضده كما يخرج النار من الشجر الأخضر، وكما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
فكذلك هذه السماء القوية كانت من قبل خلقها أولاً دخاناً فقط، ثم جعل هذا الدخان على ضد هيئته تماماً، وهذا من تمام قدرته ومن تمام إبداعه للكون، ولا يقتضي هذا أن الدخان قديم بل قد أحدثه الله وأنشأه ثم خلق منه السماء.
كذلك قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، فإن هذا لا يقتضي إلا سبق العرش والماء لخلق السماوات والأرض فقط، لكن لا يقتضي أن ذلك من غير سبق بعدم، بل هو مسبوق بالعدم؛ لقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فيدخل في ذلك العرش والماء.