والمبتغون الطالبون لهذه الغاية يعرفون بأعمالهم، على ما يظهر للناس منهم، أما السرائر فأمرها إلى الله، فالعاقل لا يشهد إلا بما رأى، ولا يقطع، لأنه لا يقطع لأحد بإخلاص النية وتمام العمل وحسنه وقبوله إلا من شهد الله له أو شهد له رسوله صلى الله عليه وسلم لكن ينبغي للمؤمن أن يحرص على أمور أجمعها فيما يلي: كثرة ذكره جل جلاله، فذكر الله جل وعلا أنس السرائر، وحياة الضمائر، وأقوى الذخائر، ولما أراد الله أن يمن على زكريا بالولد، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10] أي: أنت سوي الخلقة لكنك تعجز أن تكلم الناس، فتعامل معهم بالإشارة، ومع أنها ثلاثة أيام منقطعة، وهي آية له وبرهان وبشارة من الله، لكن الله جل وعلا أمره مع هذا الصمت أن يكثر من ذكر الله، فإذا ذكر الله تحركت شفتاه، وإذا كلم الناس عجز، فيكلمهم بالإشارة، فلم يعف الله نبيه زكريا عن ذكره حتى وهو في آية وبرهان من الله، قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41].
بل إن أهل الجنة -جعلني الله وإياكم منهم- وقد انقطع عنهم التكليف يلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا في الدنيا النفس، فهم في جنة عدن يمتعون ومع ذلك لا يفترون من ذكر الرب تبارك وتعالى.
وحملة العرش قريبون من ربهم تبارك وتعالى، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] فأثبت الله لهم التسبيح، وهو أحد أنواع عبادته وهو ذكره.
والمقصود أن مما يقربك من الله كثرة ذكره، قال الله لنبيه: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
الأمر الثاني: بعدك عن الضرر بالناس؛ لأن الذي يعرف الله يعرف أن الله مقتدر، ومن يعرف أن الله مقتدر لا يتعرض لظلم العباد؛ لأنه على يقين أن الله جل وعلا قادر عليه، فليس من فراره من ظلم الناس خوفه من الناس، وإنما خوفه من ربه، وقد كان هابيل أشد قوة من قابيل، لكن الذي منعه أن ينتقم لنفسه خوفه من الله، قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:28 - 29].
والمقصود أن البعد عن الضرر بالناس من أعظم الأدلة على خوف العبد من ربه.
والأمر الثالث: لابد أن يكون لطالب الجنة شيء من الليل يقوم فيه بين يدي ربه، يخلو فيه بين نفسه وبين مولاه، يبث إلى الله، ويشكو إلى الله بلواه، ويسأل الله جنته، ويتلو كتابه، ويقرأ آياته، ويتضرع لخالقه، ويتذلل بين يديه، قال الله عن الصالحين من خلقه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
ورابعها وبه أختم: لابد أن يكون في قلوبنا شفقة على والدينا عملاً بوصية الله لنا، فإن القيام بحق الوالدة على الوجه الأول ثم حق الوالد من أعظم أسباب التوفيق في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون! هذه أشتات من علم، يسر الله قولها في هذا اللقاء المبارك، عل الله أن يتقبل منا ومنكم.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.