الآية الثالثة: قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108] الجنة دار أعدها الله جل وعلا للمتقين الأبرار، ذكراناً كانوا أو إناثاً، من دخلها ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم، وهي قرة عين كل مؤمن، كما أن الدنيا لا تطيب إلا بذكر الله، فإن الآخرة لا تطيب إلا بعفو الله، والجنة لا تطيب إلا برؤية وجه الله.
يحبس أهلها على قنطرة، فيخلص ما في قلوبهم من غل، قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر:47]، ومر علي رضي الله عنه على طلحة والزبير وقد قتلا، فقال: أما إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43].
فيأتون أبواب الجنة وهم يملأ قلوبهم الشوق إلى وعد الله، فيجدونها قد أغلقت، فيأتون أباهم آدم: يا أبانا! استفتح لنا الجنة، فيقول: هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ فيأتون نبينا صلى الله عليه وسلم فيقرع باب الجنة، فيقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد! فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فيدخلها صلى الله عليه وسلم، ثم يدخلها الأنبياء ثم الصالحون.
ولا ينبغي لمؤمن يعرف الله أن يزاحم في شيء، ولا ينافس على أمر أعظم من أن يكون واحداً ممن يزاحمون على دخول باب الجنة، فكل ما قربك من هذه المزاحمة حري أن تصنعه، وكل ما نأى بك على أن تنأى بنفسك عن هذه المزاحمة حري بك أن تذره، وإنه سفاه منا أن يخبرنا الله عن جنة عرضها السماوات والأرض ثم لا يجد أحدنا له فيها موضع قدم.
وهذا والله! حقيقة الغبن أن يخبر الله عن جنة عرضها السماوات والأرض ثم لا يجد أحدنا فيها موضع قدم، على أن هناك حقائق يجب أن نعلمها، والدرس وإن أخذ جانب الوعظ، لكن هذا الذي به أرسل الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، فنحن لا ينبغي أن نتعلم العلم لننبز به الأقران، وننافس به غيرنا، ونختار من الألفاظ ما هو غريب، أو نأتي بالأشعار ما يقرب الناس منا أو يدلهم على فصاحتنا، فهذه كلها أمور إن جاءت تبعاً فحسن، وإن لم تأت فلا أتى الله بها، لكن ينبغي أن يوطن الإنسان قلبه على أمر عظيم، وهو أن يفوز ويظفر بدخول جنة عدن؛ لأنه إن لم تكن جنة كانت نار، ولا يوجد خزي أعظم ولا أكبر من النار، قال الله جل وعلا عن الصالحين من خلقه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:190 - 192].
فلا يوجد خزي يفر منه المرء أعظم من النار، ولا يوجد فوز ومطلب وبغية وغاية هي أعظم من الجنة، قال الله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31]، وهي الوعد الأعظم والبشارة الكبرى التي جاء بها الأنبياء وكتبها الله جل وعلا وعداً عليه مفعولاً، يسأله عباده منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرفع الإسلام ولا سؤال للصالحين أعظم من أن يسألوا ربهم دخول جنته، قال الله جل وعلا عنها: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان:16] أي: وعداً يسأله عباده إياه.
فإذا دخلوا الجنة أعطوا زيادة كبد الحوت، ثم ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، ثم يمتعون فيها قليلاً حتى يجدوا لذتها، ثم يسمعون منادياً ينادي: يا أهل الجنة! فينظرون من شرفاتها خوفاً من أن يقال لهم: اخرجوا منها وقد ذاقوا لذتها، والمنادي نفسه ينادي أهل النار: يا أهل النار! وقد ذاقوا حرها ووهج شررها، فينظرون على الضد، لعلهم أن يقال لهم: اخرجوا منها.
ويؤتى بالموت على صورة كبش فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح وينادي مناد: أن يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت، فينقطع عن أهل النار -عياذاً بالله- الأمل في أن يخرجوا، وينقطع عن أهل الجنة الخوف من أن يخرجوا، قال الله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
ولا يكادون ينتهون من هذا النداء حتى يأتيهم نداء آخر فينادي مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو، ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا؟ فيكشف الحجاب، فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله، وحتى يرزق المؤمن هذا الأمر ينبغي أن يكون في قلبه اليقين أولاً بأنه لا وجه أكرم من وجه الله، فإذا استقر في قلب أي أحد يقيناً أنه لا وجه أحد أكرم من وجه الله، ولا وجه أجل منه، قال الله عن ذاته العلية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، فإذا استقر في قلب أي أحد أنه لا أعظم من الله، ولا أحد أكرم منه، لا أحد أعظم منه اسماً، ولا أحد أكرم منه وجهاً، وأنه جل وعلا بيده مقاليد كل شيء، وأنه تبارك وتعالى وحده من له الفضل والمنة عليك، ووقع في قلبك واستقر الشوق إلى لقائه جل وعلا، فإذا وقع هذا فإنه يرث الإنسان بعدها برحمة الله عملاً بتوفيق الله يعينه على أن يدخل الجنة.
فإذا كتب الله له الجنة من الله عليه بعد ذلك بالعطية الجزلى، والبغية العظمى وهي رؤية وجه الله جل وعلا، قال الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].