من خصال المؤمنين التي ربي النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليها العفو عن الناس، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، فعلت به قريش الأفاعيل، فلما مكنه الله جل وعلا من رقابها يوم الفتح قال: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
والإنسان من جميل طباعه أن ينافس في الخير، ولقد ورد أن أبا سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الخمسة الذين يشبهون في هيئتهم نبينا عليه الصلاة والسلام، كان أول أمره كثير الهجاء للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما كان كثير الهجاء أهدر النبي دمه، فلما تاب وأسلم ذهب إلى إحدى أمهات المؤمنين وسألها كيف يعتذر؟ قالت: ائت إليه وقل له: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، كما قال إخوة يوسف ليوسف، فإن نبيك عليه السلام لا يحب أن يكون أحد أفضل منه، فجاء أبو سفيان وقال مثل ما قال إخوة يوسف ليوسف، تالله لقد آثرك الله علي وإن كنت من الخاطئين، فقال صلى الله عليه وسلم كما قال يوسف: يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين.
والمقصود أن العفو عند المقدرة من أعظم شيم العظماء.
وثمة قاعدة في الحقوق الشرعية تنتفع بها إن كنت صاحب سلطة سواء كنت أميراً، أو محافظاً، أو مديراً، أو قاضياً، وهذه القاعدة هي: اصنع في كل احد وقف بين يديك ما تحب أن يصنعه الله بك إذا وقفت بين يديه.
فإن هذه الصنائع من أعظم ما تستجدى به رحمة الله جل جلاله، فتعامل مع من يأمل فيك ما ترجو الله أن يتعامل به معك وأنت تؤمل فيه، لكن اقطع علائق قلبك من الخلق كلهم فلا تعفو عن أحد رجاء أن يعفو أحد عنك ذات يوم، هذا إن فعلته جائز، لكن نحن لا نتكلم في ما هو ممنوع أو هو مباح، نتكلم فيما يقرب من العلي الكبير جل جلاله.
وما الدنيا إلا أنفاس محدودة وأيام معدودة، ثم الوقوف بين يدي الله جل وعلا، فينبغي أن تكون أعمال العبد مطية للوصول إلى الله جل وعلا، قال الرب تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
نعود فنقول أيها المؤمنون: مع بذل الندى العفو عند المقدرة، وقد ورد في بعض الآثار أن أربعة من حملة العرش يقولون في دعائهم وذكرهم: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، والأربعة الآخرون يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك.
وكلنا ذو خطأ وما أحوجنا إلى عفو الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لا يرحم لا يرحم)، وقال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وأولى الناس بأن نرحمه الوالدان؛ لأن الله جل وعلا أوجب لهما الرحمة وبين عظيم حقهما، ثم إنه كلما كان الإنسان ممن حولك ضعيفاً كان أولى بالرحمة.
والغريب الذي ليس من ديارك أولى بالرحمة من المقيم فيها، وكل أحد بحسب ضعفه يكون أولى بالرحمة من غيره، فلو كان لك عمات كثر، إحداهن أضعف من الباقيات لوجب صرف الرحمة أكثر لمن كانت أحوج إليها، وهذا من سنن الله جل وعلا في خلقه، ولا أظن أنه يماري فيه أحد.