ضابط المعاريض وأمثلتها

الضرب الثاني من الحيل والذي احتج به أهل الحيل على حيلهم: ما يسميه أهل العلم بالمعاريض، واحتجوا فيه بقصة إبراهيم عليه السلام لما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، واحتجوا أيضاً بقصة يوسف عليه السلام لما وضع صواع الملك في رحل أخيه، واحتجوا بقصة الملكين لما تسورا المحراب على داود وقالا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] ولم يكونا خصمين إنما تحيلا بذلك.

ف

صلى الله عليه وسلم أننا لا ننكر مثل هذا النوع من المعاريض والحيل، وإنما ننكر النوع الأول، يقول أهل العلم: إذا تحيل بحيلةٍ ليدفع عن نفسه ضراً، أو ليجلب لها نفعاً بغير أن يرتكب إثماً فهذا جائز مشروع، وقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً.

فمن الواجب مثلاً: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصته الطويلة لما تخلف عن غزوة تبوك، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها)، أي: إذا كان سيسلك هذا الطريق يقول: سأسلك طريقاً آخر، والحرب خدعة، فهذا واجب.

أما قصة إبراهيم عليه السلام لما: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89]، فإنه توصل بهذا إلى تفريقهم حتى ينفرد بآلهتهم، ولما قطع رءوس الأصنام، قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63]، قال صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في الله)، فخرج من ذلك أن يكون من الكذب الذي حرمه الله عز وجل، وإنما سماه كذباً؛ لأن ظاهره يخالف باطنه ولم يأخذ حكم الكذب، وهذا الذي يسميه أهل العلم بالمعاريض.

كذلك في قصة يوسف عليه السلام، قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] أي أن الله عز وجل هو الذي أرشده إلى أن يفعل مثل ذلك، فهذه حيلة محمودة، ولو تأملت الألفاظ التي وردت في السورة لعلمت أنه بعيدٌ كل البعد عن الكذب، لما أمر يوسف عليه السلام أن يوضع صواع الملك في رحل أخيه، نادوا وهم منصرفون: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70]، هل حدد المسروق، هل قال: إنكم لسارقون؟ لما ذكر السرقة أطلق ولم ينسب، ولما ذكر الفقد نسبه، قالوا: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:71 - 72]، فعبروا بالفقدان، لكن لو قالوا: سرقوا صواع الملك لكان كذباً؛ لأنهم ما سرقوا، لذلك قالوا: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:72]، ولما ذكر السرقة، لم يقل: إنكم لسارقو صواع الملك.

وأصل مسألة المعاريض والحيل كلها مبنية على حسن استعمال الألفاظ، فمن أحسن استخدام اللفظ نجا من الحيلة المحرمة ومن الكذب، وفي بعض الأحاديث التي يحسنها بعض أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن لفي المعاريض مندوحة عن الكذب)، أي: من أحسن استخدام المعاريض لم يقع في الكذب.

وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم (لما خرج فاراً من المشركين من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه -وكان أبو بكر رجلاً نساباً تاجراً معروفاً- فكان أبو بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما قابلهما جماعةٌ من المشركين، يقولون: يا أبا بكر من هذا الذي معك؟ فيقول: هادٍ يهديني) فالنبي صلى الله عليه وسلم هادٍ يهديه إلى طريق الصلاح والاستقامة؛ ولكن ظن المشركون السائلون: أنه هادٍ يهديه في الصحراء، اصطحبه معه ليدله على طرق الصحراء.

ومثله ما ورد في بعض الأحاديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة بدر هو وأبو بكر، قابله جماعةٌ فقالوا: ممن أنتما؟ فقال: نحن من ماء -ويقصد: من ماء مهين- فقال بعضهم لبعض: أحياء اليمن كثيرة -ماء: اسم حي من أحياء اليمن - ونحن لا نعرف كل أحياء اليمن).

ولما (قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يمزح معه: إنا حاملوك على ولد ناقة -ولد الناقة صغير جداً- فقال الرجل: وما أفعل بولد ناقة؟ -يعني: أول ما يركبه سيبرك على الأرض- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق).

وكذلك لما (قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ: لا تدخل الجنة عجوز، فبكت المرأة وظنت أنها لا تدخل الجنة، فأعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من يدخل الجنة لا يهرم، ولا يدركه الكبر، إنما كما قال الله عز وجل: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37])، أي في سن واحدة، وقد ورد في بعض الأحاديث المتكلَّم فيها: (أن أسنان أهل الجنة تكون على ثلاث وثلاثين سنة) نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهلها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

فالمعاريض مبنية على حسن اختيار اللفظ، واحتجوا أيضاً بقصة أيوب عليه السلام لما قال الله عز وجل له: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]، فقد ذكر العلماء أسباباً لحلف أيوب عليه السلام، فمن قائل: إن الشيطان تزيّ بزي طبيب، فقابلته امرأة أيوب عليه السلام وهي لا تدري أنه الشيطان، فدعته إلى علاجه، فقال: نعم أعالجه لكن يقول كلمةً واحدة، وهي: أنني شفيته، قالت: نعم، فلما جاء أيوب عليه السلام وعرفه أقسم أن يجلد امرأته مائة جلدة.

ومن قائلٍ: إن امرأته باعت ضفائرها لحاجتها إلى النفقة، وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يقوم أخذ بضفائرها ويستعين بها، فأقسم إن عافاه الله أن يجلدها مائة جلدة.

ومن قائلٍ: إن الشيطان قال لها: اذبحي غنمة صغيرة يعافيه الله، ففعلت فأقسم أن يضربها إلى آخر تلك الأقوال التي ذكرها أهل التفسير.

لكن على فرض ثبوت أي واحدٍ منها، فإن المرأة كانت محسنةً مجدةً في الإحسان، فإذا سلمنا للتفسير الأول: فالشيطان تزيَّ بزي طبيب، فهي لم تقصد إلا علاج زوجها، والتفسير الثاني: أن الشيطان قال لها: اذبحي غنمة، فهي ما قصدت إلا علاج زوجها.

والتفسير الثالث: أنها باعت ضفائرها وهذا أبلغ في الإحسان، فهي ما قصدت إلا الإحسان على أي حال وهو الحصول على مال للنفقة، فكانت المرأة محسنة على أي حال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، لماذا تعاقب هذه المرأة الوفية التي ظلت مثابرةً مع زوجها بعد أن انفض عنه كل الناس غير رجلين كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان وغيره، كانا يترددان عليه، ومعلوم أن المرأة أكثر الناس تأذياً إذا كان زوجها مريضاَ؛ لأنها تحمله وتساعده وتعاونه، فهي تحمل معه المرض والمشقة، وقد لبث أيوب عليه السلام في مرضه ثمان عشرة سنة، وقد ورد في بعض القصص الإسرائيليات أن الدود كان يسري في بدنه، وهذه رواية إسرائيلية، فنحن لا نثبتها ولا نحتج بها؛ لكن مجموع القصص يدل على عظم البلاء الذي وقع فيه أيوب عليه السلام، فكذلك يقع البلاء عظيماً على المرافق الدائم له وهي زوجه، فإذا أخطأت في طلب وسيلة للعلاج أتضرب؟ لا.

لذلك أمره الله عز وجل، فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44]، حزمة صغيرة من عيدان الحشائش عددها مائة، ويضربها بتلك الحزمة مرة واحدة.

وقد احتج الإمام الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أنه لو زنى رجل غير محصنٍ وهو لا يتحمل أن يجلد مائة جلدة فيجمع له مائة شمراخ ويضرب بها مرةً واحدة، واستدل بحديث رواه أبو داود في سننه بسند متكلم فيه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان هناك رجل مريض وكان جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية أحد الناس، فهشت إليه فوقع عليها، فدخل عليه أصحابه فأخبرهم، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقالوا: يا رسول الله، والله لو حملناه لتفتقت عظامه هو جلدٌ على عظم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عثكول أو شمراخ وأمر أن يضرب ضربةً واحدة).

فاحتج الشافعي رحمه الله بهذا الحديث وهذه الآية على ضرب الزاني غير المحصن، إذا كان لا يطيق الجلد، وأبى الإمام مالك ذلك، وقال: لا يكون الضرب إلا الضرب المؤلم، لاسيما إذا كان في الحدود؛ لأن الحدود جوابر، وزواجر أيضاً، ولهم في ذلك تفاصيل؛ لكن الله عز وجل هو الذي أفتى أيوب عليه السلام، فأين فعل أيوب عليه السلام من فعل الحيل المحرمة؟! ينبغي أن نفرق بين الحيل المحرمة، التي يتحيل بها الناس إلى إسقاط الواجبات أو إلى تحليل المحرمات وبين المعاريض التي أباحها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مبني على حسن استخدام الألفاظ.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015