أما الحيلة المذمومة لأنها من جنس حيل اليهود، أن يحتال الشخص إلى ما يريد، إما بطريق مباحٍ إلى محرم، وإما بطريق محرم إلى محرم، فهذا كله حرام، وتشتد الحرمة إذا أخطأ الطريق إلى المراد، فكل من تحيل حيلةً ليحل ما حرم الله عز وجل فهو من أتباع اليهود في ذلك، وقد ذكر الله عز وجل ضرباً من حيل اليهود، فقال تبارك وتعالى في سورة الأعراف، وهو يقص علينا قصة بني إسرائيل مع الحيتان؛ وذلك أن الله عز وجل لما حرم على بني إسرائيل صيد الحيتان يوم السبت -كما قال السدي وغيره- جاءوا إلى النهر العظيم وحفروا حفراً، وهذه الحفر فيها ماءٌ قليل بينها وبين النهر قناةٌ صغيرة، فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة، حتى أنها كانت ترفع رءوسها من الماء، فإذا جاء يوم الأحد لزمت الحيتان قاع البحر، ولم يظهر حوتٌ واحد، فتحيلوا، فبدأ رجلٌ واحد منهم فحفر حفرة، وجعل بين الحفرة والنهر الكبير مسرباً، فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان فدخلت الحفرة، فإذا أرادت أن ترجع إلى النهر مرةً أخرى عجزت لقلة الماء في الحفرة، فيأتي يوم الأحد ويأخذ الحيتان.
وفي روايةٍ أخرى: أن رجلاً من هؤلاء ذهب يوم السبت إلى حوت وختمه بخيط وربطه في وتد، فإذا جاء يوم الأحد لم يستطع هذا الحوت المختوم أن يفر، وأخذه ودخل بيته وشواه سراً، فظهرت رائحة الشواء، فشم الرائحة جاره فسأله ماذا فعلت؟ قال: فعلت كذا، فذهب فصنع مثل صنيعه، حتى فشت فيهم تلك الحيلة في صيد الحيتان.
فانتصب أهل العلم لهم، ونهوهم أشد النهي عن ذلك، فقالوا لهم: إننا اصطدنا السمك يوم الأحد، فقالوا لهم: لا، لقد صدتموه يوم حفرتم له الحفر، فلما قام أهل العلم بوعظهم، ولم يمتثل هؤلاء لهم، قالوا: لا نساكنكم في قريةٍ واحدة، فإنه إذا نزل أمر الله عز وجل أخذنا جميعاً، فبنوا جداراً في القرية بينهم، فصار المعتدون بالصيد المحرم في ناحية، وأهل الورع والمؤمنون في ناحيةٍ أخرى، وصار لكل ناحيةٍ باب، وفي يوم من الأيام فتح المؤمنون بابهم وخرجوا ولم يفتح الكافرون بابهم، وطالت المدة، فقال المؤمنون لبعضهم: إن لهذا شأناً فتسوروا الجدار، فإذا هم جميعاً قردة ينزو بعضهم على بعض، ففتحوا لهم الباب، فخروا في الأرض فلا يعرفون لهم سبيلا: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166].
لنتأمل أيها الإخوة الكرام حقيقة هذه الحيلة التي احتالوها: إن حفر الحفرة أمرٌ مباح، لكنهم توصلوا بهذا الأمر المباح إلى تحليل ما حرم الله، لذلك يقول علماؤنا: الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان المقصد مباحاً، فلا بد أن تكون الوسيلة إليه مباحة أيضاً.
رجلٌ أراد الغنى وهذا أمر مباح، فقطع الطريق على الناس؛ فهذه الوسيلة لجمع المال محرمة، إن الغاية عندنا معاشر المسلمين لا تبرر الوسيلة، فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمعتدون بالصيد المحرم تحيلوا بشيءٍ مباحٍ لتحليل ما حرم الله عز وجل عليهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)، والنبي عليه الصلاة والسلام حرم ثمن الكلب، وحرم عسب الفحل، وحرم حلوان الكاهن، فلا يحل تعاطي هذه الأموال على الإطلاق؛ لكن اليهود لهم شأنٌ آخر، حرم الله عليهم الشحوم، فأذابوها، وجملوها، وباعوها واشتروا بأثمانها فاكهةً ولحماً حلالاً، وقالوا: إنا نأكل اللحم والفاكهة الحلال! فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه).
ومن جنس المحرمات التي لا يحل للمسلم تعاطيها والمعاملة بها: عسب الفحل -وهذا الفعل مشهور في الأرياف- رجل عنده فحل ذكر، ورجل آخر عنده أنثى يريد أن ينكحها، فيذهب بها إليه فينزو الفحل عليها، فمن أخذ على ذلك أجراً فهو حرام، بهذا النص: (نهى عن عسب الفحل، وعن ثمن الكلب)، ولا يحل لمسلمٍ أن يبيع كلباً أو يشتري كلباً إلا ما رُخِصَ فيه من كلب الحراسة ومن كلب الصيد، ولو أن رجلاً تحيل وأخذ حلوان الكاهن مثلاً واشترى به طعاماً حلالاً فأهل العلم يحكمون بحرمة هذا الطعام.
وفي الصحيح: (أن غلاماً دعا أبا بكر رضي الله عنه إلى طعام، فلما أكل أبو بكر قال له الغلام: أو تدري من أين هذا المال؟ قال: لا.
قال: إني كنت تكهنت في الجاهلية لفلان فأعطاني هذا المال؛ فأدخل أبو بكر رضي الله عنه إصبعه فيه فمه وتقيأ ما أكل) من الحرام، فالله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.
كذلك من يسلك الطريق المباح من أجل ارتكاب المحرم؛ مثل السفر لقطع الطريق أو لشرب الخمر أو للزنا، فالسفر في ذاته حلال، لكن المقصد حرام فالسفر حرام؛ لأن هذا سيكون من جنس الحيل.
والإمام البخاري رحمه الله عقد كتاباً في صحيحه، أسماه (كتاب الحيل)، رد فيه على الذين أجازوا الحيل من الأحناف، ومعروف أن مذهب الأحناف هو أكثر المذاهب ترخصاً في الحيل، والعلماء الكبار عندهم لم يكونوا يرخصون في الحرام؛ لكن جاء من بعدهم من المتأخرين فتوسعوا غاية التوسع، فعقد الإمام البخاري هذا الكتاب، ورد به على بعض الأحناف ممن أجاز الحيلة في ذلك، فبدأ الكتاب بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فبوب عليه فقال: (باب ترك الحيل).
مع أنه ليس في الحديث ترك، ولكن هذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله: الأعمال بالنيات، أي: لك ما نويت، وهذا هو جماع الكتاب كله، ولذلك بدأ به، ثم قال: (بابٌ في الصلاة) وأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حدثاً حتى يتوضأ)، فإن الوضوء أمانة، والذي يقوم لرب العالمين في الصف ولم يتوضأ لا يعرف الناس أنه لم يتوضأ، فإن الوضوء شيء خفي لا يدرك، فالذي يقف بين يدي الله عز وجل وهو غير متوضئ بغير عذرٍ فقد أعظم في الخيانة.
لقد رأيت في بعض مذكرات السفراء والدبلوماسيين، قال: لما دخل الرئيس السابق الكنيسة، وأراد أن يصلي تأسياً بـ عمر، وكان معه الوزراء والدبلوماسيون والسفراء، فأمر بإقامة الصلاة، فقام هؤلاء الفاسدون الدبلوماسيون يصلون بغير وضوء، ويعتذرون بقولهم: فوجئنا بالموضوع، وكنا في مكان قريب من الرئيس، ولا يوجد وقت حتى نذهب ونتوضأ ثم نعود، واستحيينا فصلينا بغير وضوء.
هل اكتشف أحد أن هذا الواقف لم يتوضأ؟ لا.
فالخيانة تدخل هنا، لذلك بدأ البخاري رحمه الله بهذا الحديث أي: أن الحيلة في إسقاط الوضوء لا تنفع صاحبها.
وقال البخاري أيضاً: (باب في الزكاة)، وأورد فيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى أنس بن مالك وفي هذا الكتاب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جمع المتفرق وتفريق المجتمع خشية الصدقة) رجلٌ عنده رأس مال قد بلغ النصاب وزيادة، فأراد أن يفر من دفع الزكاة، فيقسم الأموال على أولاده، بحيث لا يصل نصيب كل ولد إلى النصاب، فهذا إنما فرق المال ليفر من الصدقة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاقب فاعل ذلك بأن أحل عقوبته وأخذ شطر ماله عزمةً من عزمات ربنا.
فلا يحل أن يتحيل المسلم لتفريق ماله حتى يفر من أداء الزكاة الواجبة عليه، كذلك الرجل الذي عنده أراضٍ، فقبل أن يحول الحول يعرض الأراضي للبيع، وقد انطوى في ضميره أن يفر من الصدقة، فهذا لا يبارك له أبداً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وقال البخاري: (باب في النكاح)، وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار)، قيل لـ نافع راوي الحديث، (ما الشغار؟ قال: أن ينكح الرجل ابنته لرجلٍ وينكح هو ابنته بلا صداق بينهما)، فمثلاً: رجلٌ ورجل آخر، لكل منهما بنت أو أخت أو امرأة هو وليها، فقال كل منهما للآخر: زوجني ابنتك وأنا أزوجك ابنتي بلا صداق، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا النكاح، وسماه شغاراً، يقال: شغر الكلب إذا رفع ساقه ليبول، وإنما سماه شغاراً؛ لأن الرجل رفع الصداق عن المرأة وحرمها من الصداق، وهذا لا يحل، وإذا تم النكاح بهذه الصورة فالعلماء يقولون: يبطل النكاح، ويكون للمرأة مهر المثل.
إذاً: ما هي الحيلة في نكاح الشغار؟ الحيلة كالآتي: رجل موسر رغب أن يتزوج ابنة رجلٍ فقير، فرفض الفقير، فأغراه الغني وقال له: وأنا أنكحك ابنتي، فحينئذٍ سيوافق الفقير؛ لأنه سينكح ابنة هذا الغني، وبعد أن يتم العقد يقال للفقير: إن نكاح الشغار لا يحل، ويجب حينئذٍ صداق المثل، فهل الفقير يستطيع أن يدفع صداق المثل؟ -ومعنى صداق المثل: أن كل امرأة تقدر بقدرها، بنت الغني مهرها عالٍ، وبنت الفقير مهرها قليل، فلو أننا في وسط فقراء، وامرأة نُكحت نكاح شغار، فأردنا أن نمهرها بالمثل، فننظر إلى بنت عمها أو بنت خالها أو جارتها، أو ما هو مثيل بها من الطبقة ومن البيئة ومن الغنى والفقر- فعندما يعقد ويقال للفقير: إن هذا النكاح لا يحل، فيقول: ما الحل؟ فيقولون: أن تدفع مهر المثل، فيقول: لكن هذه بنت غني ومهرها كثير وأنا لا أستطيع أن أدفعه، أما الغني فيقول: أنا به زعيم؛ لأنها امرأة فقيرة وهو موسر، فيدفع مهر المثل ويأخذها بحيلة نكاح الشغار، وهذا لا يجوز، فكل حيلة تفضي إلى إسقاط ما أوجبه الله عز وجل أو إلى تحليل ما حرمه الله عز وجل؛ فإنها حيلة محرمة.