فـ أبو هريرة لم يستطيع أن يمشي على قدميه، بل كان يمشي زحفاً من الجوع، فلأنه كريم وعزيز النفس، كأنه استحيا أن يقول لواحد من الصحابة: خذني أتغدى معك، فاحتال حيلة، والكريم يفضل أن يموت ولا يريق ماء وجهه، كما قال الشافعي رحمه الله وهو يصور الإنسان الكريم قال: لَقَلْعُ ضرسِ وضَربُ حبسِ ونزعُ نفسِ وردُّ أمسِ ... وقَرُّ بردِ وقودُ فردِ ودبغُ جلدِ بغير شمسِ ... ونفخُ نارِ وحملُ عارِ وبيعُ دارِ بربع فلسِ ... كل هذا أهون من وقفة حرٍّ يرجو نوالاً بباب نحسِ الأشياء التي ذكرها الشافعي منها مستحيل، كرد أمس، وهو أن يُرجع يوم أمس مرة أخرى، ومنها أن يدبغ الجلد بغير شمس، وهذا لا يكون أبداً، ومنها أن يبيع داره بربع فلس، فهو يقول: إن الإنسان لو ارتكب كل هذه الأشياء، فإنه أهون من أن يقف على باب لئيم يطلب عطاءً؛ لأن عنده من حرارة النفس والعزة ما يمنعه أن يقف على باب لئيم.
فـ أبو هريرة رضي الله عنه احتال حيلة يحصل بها مقصوده ويحفظ بها ماء وجهه، فصلى الصحابة الفرض، فخرج قبلهم جميعاً وسبقهم ووقف على الطريق، فمر أبو بكر الصديق قال: (فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي) يعني: أنا لا أجهلها، بل أحفظها وأعلم تأويلها؛ لكن سأله لعله يقول له: تعال معي نتغدى، والذي جعل أبا هريرة يفعل هذا أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن أبو هريرة يسأله قط، إلا يقول له: لا أجيبك حتى نتغدى، فقال: إذاً نسلك هذا السبيل، وأبو بكر الصديق خير الناس بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأمَّل فيه أنه لو سأله السؤال سيقول له: تعال نتمشى، فإذا وصل معه إلى باب البيت فغير ممكن أن يقول له: مع السلامة، سيقول له: تفضل! فمجرد أن يقول: تفضل يكون الرجل داخلاً بكرامته، فقال: (فأجابني وانصرف).
قال: (فجاء عمر، فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعِي، رجاء أن يستتبعني -وفي الرواية الأخرى:- رجاء أن يشبعني، قال: فأجابني وانصرف).