(قال: حتى مر أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فلما رآني عرف ما بي فتبسم)، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، الإنسان المدهوش يستحب لك أن تلاطفه وتبش في وجهه، إذا رأيت إنساناً مكروباً فاضحك في وجهه حتى يزول ما عنده من الوحشة، وبعد ذلك سله، فمثلاً: إنسان جاء فابدأ ضيفه ولاطفه، ثم قل له: خيراً! ماذا تريد؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام أول ما رآه عرفه، والإنسان الجائع يظهر عليه أثر الجوع مباشرة، فرجل يعتمد على كبده من الجوع ويزحف على الأرض، فهذا واضح أنه هزيل لا يستطيع أن يقوم.
وقد كان أبو هريرة ليس له صنعة، كان يقول: كنت أمشي مع النبي عليه الصلاة والسلام على ملء بطني، لأنه فقير، وكان من أهل الصفة، فأول ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام تبسم، قال: (فتبسم وعرف ما بي، فقال: أبا هر! الحق بنا)، ومن حسن خلقه عليه الصلاة والسلام أيضاً أن يرخم اسم أبي هريرة، وذلك أن الترخيم يكون فيه نوع من الملاطفة، فعندما ترخم اسم شخص، مثلاً شخص اسمه محمد فتقول له: (يا أبو حِمِيد) أو أشياء من هذا القبيل فهذه ملاطفة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يرخم بعض الأسماء، وهذا الترخيم يدل على الملاطفة، أي: أن بينه وبينه وُدّاً لدرجة أنه يرخم اسمه، ولا يوجد بينهما احتشام ولا حاجز ولا شيء من هذا، ووجدنا النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يرخم في باب اللطف، والترخيم هو حذف جزء من الاسم.
ومثله حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم قالت: (كنت نائمة، فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، ففتح الباب رويداً رويداًَ -أي: بهدوء شديد-، ومشى على أطراف أصابعه رويداً رويداً، وحمل نعله في يده، ووضع جنبه على الفراش رويداً رويداً) هي كانت تنظر هذا من تحت اللحاف، وهو يظنها نائمة، (فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام فأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق، قالت: فقمت فتقنعت إزاري وانطلقت وراءه) وذلك لتنظر أين يذهب، فهي امرأة عندها غيرة شديدة، فظنت أنه ذاهب إلى أم سلمة أو أم حبيبة، فانطلقت وراءه، فاستمرت تمشي وراءه حتى ذهب إلى البقيع، فرفع يديه ثلاثاً يرفعها ويخفضها، ثم انحرف راجعاً إلى البيت قالت: فانحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -أي مشي بطيئاً- فأحضرت وسبقته، أول ما وصلت الحجرة دخلت تحت اللحاف، فهذه امرأة تجري، فكان من تتابع النَّفَس وتلاحقه أن بطنها يرتفع وينخفض، فأول ما دخل وجد اللحاف يرتفع وينخفض، فقال: ما لك يا عائش هذا هو الترخيم، فحذف بعض الاسم: (ما لك يا عائش حشيا رابية) أي: هل عندك مرض صدري، لأنه تركها مستريحة، وهذا ليس منظر امرأة نائمة، قالت: (لا شيء، قال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ -وذكرت له ما حدث- قالت: فلهزني في صدري لهزةً أوجعتني، وقال: أظننتِ أن يحيف عليك الله ورسوله -أي: بأن تكون الليلة لك وأذهب لغيرك- إن جبريل أتاني فناداني، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعتِ ثيابك، فناداني فأخفى منك، فأجبته فأخفيته منك، وكرهت أن أوقظك فتستوحشي، فقال: إن ربكَ يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) إلى آخر الحديث.
فانظر اللطف، لما رأى بطنها يرتفع وينخفض قال: (مالك يا عائش!)، الترخيم يدل على اللطف، كذلك كان يقول لـ أسامة بن زيد: (يا أسيد) ترخيم، وأسامة بن زيد هو الحب ابن الحب، وكان محبوباً عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فالترخيم يعرف إذا كان للطف أو للتقريع من سياق الكلام، كما يقول العلماء: إن السياق من المقيِّدات.
فمثلاً في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، قال: (يُجاء برجل فيقول الله تبارك وتعالى له: أيْ فُل!) (فُلْ) ترخيم: (يا فلان)، فهذا ترخيم، لكن هذا الترخيم استهزاء واحتقار، ونحن عرفنا أنه ترخيم استهزاء واحتقار، لأن دلالة الكلام تدل عليه قال: (أي فُلْ! ألم أذَرْك ترأس وتربع)، (تربع) كان أهل الجاهلية إذا أغاروا على قوم أخذوا ربع ما غنموا وأعطوه لكبير الحي يضيف به الضيفان، ويقوم به على النائبات، فالمعنى: كنت تأخذ المرباع وأنت جالس في بيتك، (ألم أذَرْك ترأس)، -أي: تكون رأساً قال: (وأزوجك من النساء، وأركبك من الخيل والإبل، فأين شكرك؟! قال: رب نسيت، قال: فاليوم أنساك).
فواضح من السياق أن قوله: (أيْ فُلْ) ترخيم إهانة وتقريع، كما قال تبارك وتعالى لأحد الكافرين: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، ومعروف أن عبارة (العزيز الكريم) لا تكون عادةً بهذا اللفظ إلا للإكرام والعزة، فهذا السياق دل على أن عبارة (العزيز الكريم) ليس المقصود بها الإكرام، بل المقصود بها الإهانة، وهكذا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد ما عند أبي هريرة من الجوع والشحوب على وجهه، أولاً: تبسم حتى يزيل ما عنده من الكآبة، ثم رخم اسمه لمزيد من اللطف، قال: (أبا هر! الحق بنا) فـ أبو هريرة بالنسبة له هذه هي الغنيمة الباردة، هذا الذي كان يريد، فانطلق خلف النبي عليه الصلاة والسلام، فلما دخل وجد إناءَ لبن، قال: (من أين هذا؟)، وفي هذا دليل على استحباب أن يتفقد الرجل بيته، فلا يدخل فيلقى جهازاً كبيراً يخرق العين، ثم يمر عليه كأن أحداً لم يأت بجهاز، فمن الممكن أن يكون ولده سرق، فلا بد أول ما يدخل أن يتفقد كل شيء في بيته، أي شيء هو لم يستجلبه يقول: من أين هذا؟ ويتفقد، فلعل ولده سرقه أو نحو ذلك.