الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أغلب المفرطين في زماننا الآن يعبدون الله بالرجاء، والعجيب أنه يوجد من ينسب إلى هذا الدين من يغذي هذا الشعور، على صفحات الجرائد والمجلات فيقول: الله! انتم تخوفون الناس من النار، ألا يوجد جنة، كله (وبئس المصير).
فهم لا يريدون أن نتكلم عن النار إطلاقاً! هل هذا مجتمع رباني كل أفراده أبرار أخيار، أو هو مجتمع ملآن بالمخالفات، بلا شك أنت محتاج أن تقول له: ستدخل النار.
إذا كان هناك ولد منحل، يخرج مع البنات، ويشرب الحشيش، ويشرب الكوكايين والسجائر، لو أن أباه جاء له بسيارة لخطّأه كل الناس حتى أهله، يقولون: هذا دلع، يجب أن تشد عليه.
كذلك الواعظون عندما يرون هذا الانحلال كله؟ هل تريدهم أن يقولوا له: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] وما الذي عمله؟! أن لكل مقام مقال.
فهناك من يغذي في الناس هذا الشعور، يعبد الله بالرجاء، والطمع في رحمته، ولذلك ستجد إنساناً لا يصلي، ولا يعمل أي شيء، تقول له: يا أخي صل.
يقول لك: يا أخي! إن الله غفور رحيم.
لماذا غفور رحيم فقط والله قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] لما لم تكملها؟ وقد قدم تبارك وتعالى الرحمة على العذاب؛ لأن هذه كما قال في الحديث القدسي: (إن رحمتي تغلب غضبي) لكي يكون باب العذر واسعاً بالنسبة للعبد، فعبادته لله بالرجاء، يجعله يقصر أكثر، ولو عبد الله بالخوف فقط يكفر؛ لأن مهما فعلت من حسنات لا تكون ثمناً للجنة أبداً.
الرسول عليه الصلاة والسلام لو لم يقل لنا: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) لظننا أن أعمالنا تبلغنا المنزل؛ لأننا نقرأ في كتاب الله عز وجل ذلك {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] (الباء) هنا (باء) السببية، أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، إذاً السبب أدخلك الجنة، إذاً عملك بلغك المنزل، الآية هكذا، والرسول عليه الصلاة والسلام المبين لكلام الله عز وجل صحح لنا هذا المفهوم المغلوط، فقال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، ولا أنت يا رسول الله؟ ولا أنا) هذا منتهى اليأس، رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من مشى على الأرض بقدميه، ولا يوجد رجل في الدنيا عبد الله مثل عبادته، ولا جوّدها تجويده، يقول: أنا لا أدخل الجنة بعملي! إذاً: أنت مهما فعلت لن تدخل الجنة، وماذا تكون النتيجة؟ لماذا أعمل، لماذا أترك الفراش الوثير وأقوم الليل، لماذا أجوع نفسي وأصوم، لماذا أخرج من مالي الذي هو من كدي وعرقي لفلان، أنا أولى، إذا علم أن كل طاعة مردودة يئس.
هذه القاعدة موجودة في أماكن كثيرة، ومن أبرزها في الجيش: السيئة تعم والحسنة تخص، طيب أنا رجل مستقيم ومنضبط، وأنت تعلم هذا، فلماذا تعاقبني؟ أنا أسأل نفسي: لماذا أنا واقف انتباه وشادد عظمي؟ حتى لا أنام، أي خلاص لا جزاء، فهذا العمل يفقد الانتماء، والمحبة، والولاء، وهذه حقيقة، ولذلك في السابق عندما كان الناس يدخلون الجيش ولا يخرجون منه، فكان الكثير منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب حتى يعفوا من الجيش، وكان الذي يدخل الجيش مفقود، والذي يخرج منه مولود، عندما يكون الواحد هذا شعوره هل يمكن أن تنتصر به؟ تنتصر بواحد يرى أن وجوده في الجهاد أو في هذا الرباط مغرم؟ طبعاً لا يمكن أن تنتصر بهم، شيء طبيعي جداً أن يهزم.
لذلك من يعبد الله بالخوف فقط، فيرى أن كل طاعة لا قيمة لها، لن يضل هكذا على طول، بل سيسأل نفسه: ولماذا أعمل وأنا غير مستفيد من عملي، ثم ستجده يكف عن العمل.
كذلك الذي يقول: إن الله غفور رحيم، يا أخي! مهما تركت؛ ربنا رحمته واسعة، هو غفر لأكثر مني وأشد عتواً وعدواناً على حرماته ويضل هكذا؛ فيضيع.
لكن العبادة الحقة صفتها: أن تعبد الله عز وجل بالخوف والرجاء معاً، فتلقى الله محسناً.
طيب: أنا أريد أن أبلغ المنزل ماذا أفعل؟ المرة القادمة لن أتصدق علانية، أتصدق في السر، لعل هذا الشعور يزول، هو تصدق أول مرة، حمله هذا الخوف مع مداومته للطلب على أن يتصدق مرة ثانية، فتأتيه نفسه: مالك هذا حلال، لا تنس أنه كان فيه شبهة يوماً ما اقترفتها.
طيب: إذاً ما الحل؟ اتق الشبهات، اجعل مالك حلالاً، فيذهب إذا كان هناك أي مبايعات فيها حرام أو شبهة يتجنبها.
إذاً: كلما قدم طاعة؛ لامته نفسه وشككته فيها، فيقوم يحسن الطاعة أكثر لعلها تقبل، فما إن يفعل حتى يرجع إلى نفسه فيشك أنها قبلت أو حيزت بالقبول، فيجود عمله أكثر لعله يقبل وهكذا يلقى الله تبارك وتعالى دائماً محسناً.
وأريد أن أنبه إلى جزئية مهمة، في قوله تبارك وتعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] إذا كان (الباء) هنا (باء) السببية، فكيف نوفق بين الآية وبين الحديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)؟
صلى الله عليه وسلم أن هذا من تمام تفضل الله عليك، يعطيك الكثير بما تبذله من القليل الذي أمرك به.
نضرب مثالاً: أصعب شيء في الدنيا أنك تجمع ما بين قلبين لماذا؟ لأن القلب ليس في ملكك ولا في ملك أحد، فلما يكون أحدهم رأس ماله العصافير التي في الدنيا؛ إذاً هو فقير؛ لأنها ليست في يمينه، والقلب معروف أنه ملك الرب تبارك وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء) وقال صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان أكثر يمينه (لا ومقلب القلوب) إعلاناً عن عجز الإنسان التام إزاء هذا القلب، وهذه حقيقة لا يمكن دفعها، لأنك أنت أحياناً تُغلب على حب إنسان وددت أنك أنت تكرهه، كم من العشاق الذين تلفوا فعلاً أو كاد بعضهم أن يتلف بعدما ذهبت نفسه وراء حبيبه! قيل له: انس.
قال: لا أستطيع.
لو كان قلبه بيده ما عذب إنسان نفسه طرفة عين.
إذاً: أصعب شيء أن تجمع بين قلبين، وقد قال الله تبارك وتعالى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63].
لنفرض إن إنساناً لديه ما في الأرض جميعاً، ولكي يحصل ما في الأرض جميعاً ويصبح ملكه، هو يحتاج جهداً جباراً، ولو أنه تاجر في التراب لربح، وبعد ذلك أتحداه أن يوفق ما بين قلبين، قام وأتى بكل تعبه وقسمه نصفين، وقال: أنت تأخذ النصف والآخر يأخذ النصف الآخر، بشرط أن تحبوا بعضاً هو لا يستطيع أن يفعل هذا؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] إذاً هذه تحتاج معجزة، ليست بملك أحد.
إذاً: ما قولك في أن هناك شيئاً يسيراً جداً يمكنك به أن تجمع بين القلبين وأنت واضع رجلاً على رجل، وأمرت به! قال صلى الله عليه وسلم: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم -وفي رواية- بين قلوبكم) هل تسوية الصفوف أسهل أو أجمع بين قلبين؟ انظر إلى هذا اليسر! أن تسوي البدن بالبدن فقط.
إذاً: هل بمجرد أننا نسوي الصف تتساوى جميع القلوب؟ لا تتساوى، لكن انظر إلى ما أمرت به وهو في ملكك ويمينك ما أيسره! وانظر إلى ما أعطاك في مقابله لا تستطيعه أبداً مهما فعلت، فقصر في ما في يمينه، وأراد أن يفعل الذي يعجز عنه، كل الذين يوفقون الآن بين القلوب، يقول لك: توفيق بين الجماعات، ونقعد مع بعض، ونعمل اجتماعات، ونعمل أي شيء.
يا أخي! افعل ما أمرت به، نحن نعلم أن ما أمرت به في ملكك ويمينك، فهو ميسور؛ لأنه على قدر قوتك {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] لكن الثمرة التي يعطيكها الله عز وجل في مقابل هذا الذي تبذله أعظم بكثير جداً من بذلك وعطائك.
أنت مطلوب منك سبب لابد أن تفعله؛ حتى يعطيك الثمرة، وإذا لم تفعله لا يمكن يعطيك.
أشياء يسيرة يجب الالتفات لها، بعض المسلمين الآن يقولون عن مثل هذه الجزئيات أنها قشور، تصور: تسوية الصف عند بعض المسلمين قشور! يقول: يا أخي! أي تسوية صف الذي أنت مهتم بها ربع ساعة والمسلمون يذبحون في لبنان، إذاً: نم على ظهرك، حلت مشكلة لبنان، حررت البوسنة والهرسك انظر التهريج! ترك ما أمر به، ولو فعل ما يوعظ به لكان خيراً له {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
أحياناً قد يعمل الإنسان عملاً تراه في منتهى الجمال، مع أنه يسير ولم يقصده، والله تبارك وتعالى، لا يستصغر معصية ولا يستقل بطاعة، وفي الحديث: (إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة) نحن قصرنا فيما أمرنا به فحرمنا الثمرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.