الأجور الكثيرة المترتبة على الأعمال القليلة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

قال العلماء: كل ما أوجبه الله تبارك وتعالى على العبد ففي إمكانه أن يفعله؛ لذلك أوجبه عليك، وكل طاعة دخلت في دائرة الاستحباب؛ يبلغه الله عز وجل إياها بجده وحسن قصده وإن كان ضعيفاً.

أقول هذا الكلام؛ لأن هذا ملتصق بما ذكرته آنفاً: أن ما تؤمر به قد يكون شيئاً يسيراً، لكن ما تعطاه بامتثالك بهذا اليسير يكون أعظم بكثير جداً من الذي بذلته.

هذه مسألة أدندن عليها؛ لأن بعض الناس استقلوها، وأراد أن يدخل في المنطقة الصعبة التي ليست له، يرجع دائماً منها بخفي حنين.

إذاً: دائرة المستحبات أوسع جداً من إمكانات العبد؛ لأن الورع ليس له آخر، ولو كنت سيد الورعين في هذا الزمان لما استطعت أن تأتي على كل ما ينبغي أن يتورع منه، نعم أنت بإمكانك هذا النهار ألا تأكل أي فاكهة أو لحماً أو أي شيء فيه شبهة، مثلما حكي عن بعض العلماء أنه لما سرقت شاة في أيامه؛ ذهب إلى قصاب وسأل عن العمر الافتراضي الذي تعيشه الشاة، قال له -مثلاً-: عشر سنين؛ فحرم على نفسه أكل لحوم الشاة عشر سنين، حتى يضمن أنه لن يدخل بطنه شيء من لحم الشاة المسروقة.

إن ديننا وضع هذا الحرج، أنت غير مطالب أن تذهب إلى كل جزار لتنظر إلى كباشه من أين مصدرها، بل لو تحريت ذلك لدخلت في باب التنطع المنهي عنه، فلو تجاوز ذلك الأمر به لدخل باب الحرام مباشرةً، لكن أنت بينك وبين نفسك ترى أن صلاحك في ذلك افعل، لكن لا تأمر أحداً به؛ لأن الورع غير ملزم، بمعنى أنا مأذون لي أن أتمتع بالحلال، فأنت إن شئت تورعت، أنت حر، لكن لو أردت أن تفتح باب الورع في كل جزئية هذا مستحيل؛ إلا أن تكون نبياً.

إذاً: دائرة المستحبات واسعة جداً، وهذه التي نحن نخصها بالذكر الآن، طالما أنها واسعة جداً، ولا تستطيع تحصيلها كلها، فجهدك القليل كيف تأخذ به ثواب كل هذا المستحب الذي لم تفعله؟ هنا تأتي الأمثلة التي سوف نضربها الآن، والبيان الذي ذكره العلماء في كتبهم، أنك تفعل الشيء اليسير الذي أنيط بك فعله، وما عليك من الباقي.

مسألة تسوية الصف هذه السنة صارت غريبة تحتاج إلى تهيئة من الإمام الراتب الذي يصلي دائماً، مع أن الناس الآن كل واحد يسوي نفسه بنفسه، والإمام يقول: (استووا) ووجهه إلى القبلة، لكن لو أن إماماً جعل يسويهم ثلث ساعة، ويمر على الصفوف المتطاولة، ويحاول يعمل مثل ما ورد في بعض الآثار، يأتي بجريدة خضراء، ومن ثم أنت ركبتك بارزة قليلاً، أنت كوعك هل أنت متصور أن المصلين يسلمون له بذلك؟ طبعاً لا يسلمون له بذلك.

بل قد تصير مشكلة كبيرة لو أن هذه الجريدة أوجعت إنساناً.

فمثل هذه السنة تحتاج إلى تهيئة.

كذلك بعض الأئمة مثلاً لما نصلي وراءه الجمعة يطيل في القراءة، ويطيل في الركوع، ويطيل في مواضع لم يتعود العامة أن يطيل فيها، لو كان حافظاً فيها ذكراً واحداً فقط لانتهى في خمس عشرة ثانية، مثلاً الجلسة ما بين السجدتين، كثير من الناس يتصور أن ترفع رأسك فقط، وليس فيها ذكر، بل فيها: (اللهم عافني واجبرني، وارحمني واهدني، وارزقني وتولني).

النبي عليه الصلاة والسلام كانت صلاته واحدة، يقرأ خمسين آية، يركع بمقدار خمسين آية، يرفع (سمع الله لمن حمده) ويقعد يذكر الله بمقدار خمسين آية، يسجد بمقدار خمسين آية، يرفع ما بين السجدتين بمقدار خمسين آية، يسجد سجوداً ثانياً بمقدار خمسين آية كانت صلاته هكذا عليه الصلاة والسلام.

هو يقول لك ماذا؟ ليس خمسين آية، عشر آيات فقط، أحياناً يمد المد المتصل والمنفصل، يأتي لك بأربع حركات في المنفصل وست حركات في المتصل ويشبع، بدل ما تأخذ القراءة عشر دقائق تأخذ لها خمس عشرة دقيقة، بسبب المدود، فهو يقعد ما بين السجدتين خمس دقائق، والخمس الدقائق هذه تفقع مرارة تسعين بالمائة من المصلين، لاسيما إذا أضفت إلى ذلك وجود الأولاد الذين يبكون، أحد المصلين يقول في نفسه: أنا قرأت حديث: (إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي) وهذا هل يسمع أم ماذا؟ فيخرج متغيضاً من الصلاة.

هذا الإمام ينبغي أن يعرف المسجد الذي يصلي فيه، صلاة الإمام الراتب كيف هي؟ ويسأل ويرى، اتركه يصلي كيفما يريد، لكن إذا سمع صوت بكاء يتجوز، الخطأ هنا خطأ الإمام الراتب الذي لم يعلم رواد المسجد هذه السنن، يأخذها شيئاً فشيئاً، بحيث لو جاء رجل فأطال؛ تكون المسألة غير مستغربة.

ولذلك كان من أغرب الغرائب أن مسجداً من المساجد التي تقام بها السنة الناس لا يعرفون أن المسافر يصلي ركعتين، طيب وهذه من أين أتت؟! أنا مرة صليت في مسجد من المساجد التي تقام فيها هذه السنن في محافظة من المحافظات، وبعد أن انتهينا من المحاضرة ذهبت أتوضأ للعشاء، وقد كان المسجد مكتظاً إلى آخره، ثم جئت لأصلي، فلم أجد مكاناً لأصلي فيه، فنظرت فإذا بي أجد فرجة تحت سرير السلم في آخره، فمشيت بين الصفوف، وليس في ذلك قطع لسترة المأمومين.

المهم: وأنا ذاهب وجدت أحدهم يقطع بيده طريقي، فتجاوزته برفق ومررت، أنا قلت في نفسي: بعد أن أكمل الصلاة أذهب وأقول له: يا عم الحاج! وجهك منور، والسنة كذا وكذا.

هو ما أمهلني، انتهينا من الصلاة: ما الذي فعلته؟ كيف تمر من بين المصلين؟ قلت له: هناك حديث في البخاري.

قال: أي بخاري؟!! المفزع إلى الآن أنه ليس هناك أي إثارة، الإثارة ستأتي قريباً، ذهبنا نتعشى، فلقيت الجماعة الذين اعترضوا علي هم الذين يضعون الأكل، طيب: نتعرف فلان رئيس مجلس الإدارة، وفلان عضو مجلس الإدارة، وهم الذين قالوا: أي بخاري؟! وأي كلام تتحدث عنه! فهل يعقل أن رئيس مجلس إدارة مسجد يقيم السنة لا يعرف مثل هذا؟ طيب: هذا خطأ من؟ خطأ الإمام الراتب، الذي لم يبذل جهداً في تعليم رواد المسجد الأصليين مثل هذه الأشياء.

أنا أقول هذا الكلام حتى نعرف أننا سندخل معارك من أجل تسوية الصفوف، فأنا لو أردت أن أسوي الصف ممكن الذي لا يعترض يسكت، لكن بينه وبين نفسه غير راض على هذا الأمر، فما بالك بالعوام، فانظر سنة خفيفة ممكن نفعلها، انظر كيف صارت بإهمالنا صعبة الآن! لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى فهذه الجبال التي هي التفات القلوب عن بعضها الآن؛ سببها الحصوة التي تركناها، حصوة مع حصوة وصارت جبلاً، ليس بالسبب تنال، لكن الله عز وجل -كما قلت- يعاملك بالفضل، فقط افعل ما أمرت به وإن كان ضئيلاً.

الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب المواقيت باب وقت صلاة العصر، روى ثلاثة أحاديث في هذا الباب، الحديث الأول عن أبي هريرة: (من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك) وهذا واضح الدلالة، والحديث الثاني حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث الثالث حديث أبي موسى الأشعري.

حديث ابن عمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) عمر هذه الأمة بالنسبة لأعمار الأمم السالفة مثل ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، (أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار وعجزوا؛ فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا حتى إذا انتصف النهار -لصلاة العصر يعني- وعجزوا؛ فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأوتينا القرآن، فعملنا من وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس؛ فأعطانا قيراطين قيراطين، اعترض اليهود والنصارى قالوا: أي ربنا! كنا أكثر عملاً منهم وأقل أجراً.

فقال: هل ظلمتكم من أجوركم من شيء؟ قالوا: لا.

قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) فهذه الأمة تعامل بالفضل.

لكن ما علاقة هذا الحديث بتبويب الإمام البخاري (باب من أدرك ركعة من العصر) مع أن الحديث هذا ما فيه لا ظهر ولا عصر، إلا لضرب المثل فقط؟ الإمام البخاري وضع هذا الحديث في هذا الباب برغم خفاء دلالته؛ ليقول: إن الله تبارك وتعالى عاملك بالفضل يوم أن قبل منك ركعة في الوقت وثلاث ركعات في غير الوقت، فعاملك بالفضل؛ لأنك عندما تصلي ركعة واحدة من العصر، ويدخل عليك المغرب، إذاً هناك ثلاثة ركعات من العصر وقعت في وقت المغرب، إذاً أنت ما صليتها في وقتها، إذاً المفروض أن الثلاث الركعات هذه لا تحسب لك لا، تكرماً منه تبارك وتعالى وهب لك الثلاث الركعات في غير الوقت للركعة التي أدركتها في الوقت! البخاري رحمه الله يريد أن يقول هكذا، فكما أننا أقل أعماراً إلا أننا أعظم أجراً، وكما أن الركعة هي أقل القليل في صلاة العصر فقد أعطاك أجر العصر كله بإدراك ركعة واحدة، وما عاملك بالعدل، فقبل منك ركعة وحرمك أجر ثلاث ركعات إذاً نحن نعامل بالفضل.

الله عز وجل يعطيك الشيء الجزيل على الشيء اليسير الذي أمرك أن تفعله، وأنت ترى هذا في أعمارنا من الستين إلى السبعين، وقليل من يصل إلى مائة، ومع ذلك تستطيع أن تلقى الله عز وجل بعبادة أربعة آلاف سنة، قال تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] ألف شهر، أي: ثلاثاً وثمانين سنة وبضعة أشهر، الغ الكسر واجعلها ثلاثاً وثمانين سنة، فأنت مثلاً إذا أعطاك الله من العمر ستين سنة، فُرض عليك رمضان وأنت ابن خمس عشرة سنة، فتكون قد أدركت خمسة وأربعين رمضاناً، ولنفترض أنك صمته، وقمت ليلة القدر في كل رمضان إيماناً و

طور بواسطة نورين ميديا © 2015