تنازع العلماء في مسألة قد تبدو عجيبة، قالوا: أيهما أفضل: العبد التائب، أم العبد الذي لم يعص الله قط؟ الذي لم يعص الله أفضل بلا شك، وهذا هو البدهي، لا ننازع ولا نناقش في هذه الجزئية.
لكن نقول: مما يفضل به العبد التائب على العبد الطائع أبداً: أن العبد الذي عصى الله تبارك وتعالى ثم تاب إليه زاد عبودية في نفسه على عبودية الطائع أبداً، وهي عبودية الذل والانكسار، والرجل الذي لم يعص الله قط -على افتراض وجوده- قد يدركه العجب بعمله يوماً ما، يقول: أنا رجل لي سنين أقوم الليل، وما مر علي خميس ولا إثنين أبداً إلا وأنا صائم، وكذلك ثلاثة أيام من كل شهر، وأتصدق والحمد لله، فهذا قد يدركه العجب من هنا.
إنما العبد العاصي إذا تاب توبة نصوحاً يجعل الذنب دائماً أمامه، يخشى ألا يقبل الله عمله لهذا الذنب، كيف لا وأنبياء الله عز وجل أدركهم مثل هذا الشعور، فلفظوا به في عرصات القيامة، كما في حديث الشفاعة المشهور، الناس يبحثون عن أي شفيع، يذهبون إلى آدم عليه السلام: أنت أبونا، صورك الله ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند ربك.
يقول: نفسي نفسي، أمرني ألا آكل من الشجرة فأكلت.
مع أن آدم عليه السلام تاب الله عليه، بل اجتباه الله بعد الذنب، لكنه تذكر ذنبه وخشي أن يؤخذ به.
إبراهيم عليه السلام نوح عليه السلام موسى عليه السلام، كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي! هذا حال الأنبياء المغفور لهم، يدخلون الجنة قبل أممهم، ولا يدخلون الجنة إلا بعد شهادتهم لهم أنهم آمنوا، ومع ذلك يقولون مثل هذا الكلام.
العبد إذا تاب، ووضع الذنب أمامه، وخشي هذا الذنب كان سبيله إلى الجنة.
ولذلك قال من قال من السلف: رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً.
وقال الآخر: إن العبد ليفعل الذنب فيأخذ بيده إلى الجنة، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لا يزال ينظر إلى الذنب، ويجّود عمله ويحسنه حتى يلقى الله محسناً.
هذه عبودية الذل والانكسار، العبد التائب من العصيان شارك العبد الطائع دائماً عبودية المحبة، وعبودية التسليم، وعبودية الرضا، وزاد عليه على الأقل عبودية الذل والانكسار وبهذا الأصل ينحل الإشكال.
رأى جماعة رجلاً من الصالحين يوم مات ولده يضحك، فاستشكلوا هذا الأمر لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يوم مات إبراهيم بكى، وهذا يضحك! فهل هذا راض أكثر من الرسول عليه الصلاة والسلام! إذا راعينا هذا الأصل انحل الإشكال، إذا مات الولد؛ العبد مطالب بأكثر من عبودية: مطالب بعبودية التسليم والرضا، وهو مطالب أيضاً بالرحمة والرأفة، فقلب ذلك العابد لم يتسع إلا لعبودية الرضا، إنما النبي صلى الله عليه وسلم قلبه اتسع، أعطى الرحمة حقها فبكى على الولد، وأعطى التسليم حقه: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يغضب الرب، ولما رأوه يبكي قالوا: تبكي! قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)، هذه عبودية التسليم والرضا، اتسع قلبه فأعطى هذا وذاك، وضاق قلب هذا العابد، فلما تزاحمت عليه أكثر من عبودية لم يستطع إلا أن يقدم عبودية الرضا.
عبودية الذل والانكسار من أجلِّ ما يحصله الإنسان، كل شر في الأرض أحد أسبابه ضياع هذه العبودية، هذه العبودية هي المدخل الحقيقي الواضح لصفة العبادة المقبولة؛ لأن العبادة المقبولة هي أن تعبد الله عز وجل بالخوف والرجاء، كما يقول ابن القيم رحمه الله: الخوف والرجاء بالنسبة للعبادة كجناحي طائر، لا يبلغ الطائر المنزل بجناح واحد، كذلك لا يبلغ العبد الجنة -التي هي المنزل- إلا إذا حقق هذين النوعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.