الرد على نفاة القياس

فدلالة الحديث ظاهرة، وفي هذه الآية رد على بعض الطوائف، وإن كان هؤلاء الطوائف تمسكوا بها في الرد على مخالفيهم، والقرآن حمال ذو وجوه، فمثلاً الذين ينكرون القياس تمسكوا بهذه الآية، قالوا: إن الله أكمل دينه وأتم نعمته، وما ترك شيئاً إلا بينه، فلم تلجأون إلى القياس؟ والقياس هو: محض اجتهاد في تحقيق انطباق علة الأصل على الفرع، هذا هو القياس، فعندنا فرع نطلب له حكمه، فننظر في هذا الفرع أله علة؟ فإن وجدنا له علة، ننظر أهذه العلة بكاملها موجودة في أصل محكم، إن كان ذلك كذلك، واشتركا في علة الحكم أعطينا الفرع حكم الأصل.

فمثلاً: الخمر علة التحريم فيه الإسكار، وهو وصف ثابت منضبط، فأي إنسان يسكر تظهر عليه علامات السكر، ولا يقال: إن أناساً يشربون الخمر ولا يسكرون، فعلى هذا يجوز الخمر، وقد رأيت هذا بعيني، لما سافرت إلى أسبانيا سنة (76)، وعملت هناك صحفياً لجريدة مشهورة، وكان القصد منها أن أمارس اللغة، فكنت أجد أي فرد فأتكلم معه حتى أتقن كلامهم فأمسك بيدي دفتراً وقلماً وأعرض لأي رجل في الشارع وأقول له: أنا صحفي وأريد أن أسأل أسئلة عن أسبانيا حتى نعرف المسلمين بها، ومن ثم ندخل في الكلام، فرأيت في هذه الدولة عجباً، قابلت رجلاً عجوزاً شيخاً، فقلت له: أنا صحفي ومن مصر، وأريد أن أعرف أسبانيا أيام الطراز الإسلامي، وأسبانيا أيام فرانكو، وأسبانيا أيام خوان كارلوس وهو الموجود حالياً، فأول ما سألته عن الإسلام بصق الرجل ومضى، والأندلس هي جنوب أسبانيا وهي الصعيد، فكل بلد فيها صعيد، يعني وجه قبلي ووجه بحري، فالصعيد ليس عندنا فقط، فالمسلمون ما دخلوا إلا صعيد أسبانيا التي هي الأندلس، ووقفوا تقريباً على منتصف أسبانيا من الأسفل، وعندما تذهب إلى هناك ترى فعلاً الآثار الباقية واضح عليها جداً اللمسات الإسلامية، فأول ما قلت للرجل: إسلامي بصق، وحدث نفس الموقف مع رجل آخر، وبصق أيضاً، ومكثت أبحث عن المسجد لأصلي الجمعة قرابة أسبوعين، ولم أعثر عليه حتى وصف لي وصفاً دقيقاً، وكنت متوقعاً أن أجد مسجداً وحيداً في مدريد له منارة وقبة، وظاهر عليه سمت المساجد التي نعرفها، فبحثت في الشارع كله فلم أجد المسجد، فسألت رجلاً: يقولون إن مسجداً في هذا الشارع؟! فبصق وتركني، وظللت أبحث عن المسجد حوالي أربع ساعات إلى أن عرفت أنه في عمارة في أسفلها، تنزل له بسبع أو ثمان درجات، ودخلت فلم أجد مسلماً من جنس أسباني أبداً، وإنما كل الموجودين في المسجد كانوا من الجالية العربية، وكان أغلب هؤلاء من أهل الشام.

فكنت أعمل صحفياً وأسأل الناس عن الأخبار، ومرة سألت رجلاً منهم يقال: إن هناك حي ليس للمسلمين فيه نصيب أبداً، ويقال والله أعلم: بني فيه مسجد، وهو حي من أعتى أحياء أسبانيا وهو حي الجامعة، فبينما كنت أمشي في يوم من الأيام لقيني رجل فعرف أني من مصر فقال كلمة أسبانية تعني: الأحرار، فهو لا يعرفنا إلا بالأحرار، وقال: لا بد أن أدعوك اليوم، وكان معي زميلي في الرحلة، فأخذنا إلى البيت وقال: هذا الخمر القديم أنا لا أنزله إلا للأحباب، وأنزل قارورة سوداء جداً، وصب منها كأساً، قدر عقلة الإصبع، فقلت له: الخمر عندنا حرام ولا يجوز، وأما صاحبي فكان عنده حب استطلاع فأخذها فقال الرجل: لماذا الخمر حرام؟ فقلت: لأنها تسكر، فرفع القارورة وقال: هه، وشرب منها، وأما صاحبي فشرب منها فاضطربت معدته وحصل لها ما حصل، بينما شرب الرجل وأتم معنا الجلسة وذهنه صافٍ وليس هناك إشكال.

فلا تؤثر مثل هذه الصورة على الحكم، لأنه يقال: الشاذ لا يقاس عليه، وإنما يقاس على الأعم الأغلب، يعني مثلاً: النفاس أكثره أربعون يوماً، فلو نفست امرأة مثلاً ثلاثة أشهر فلا يجوز أن نربط حكم النفاس على الثلاثة أشهر لقلة من يستمر معها النفاس ثلاثة أشهر، لكن لما تدبروا في حال النساء وجدوا أن أغلب النساء لا يزدن على أربعين يوماً، فجاز لهم تعليق الحكم بالعادة الغالبة، فالوصف المنضبط في الخمر هو الإسكار، وعلامة الإسكار تظهر على كافة الناس حيث يخرج الإنسان من وقاره ويتكلم بكلام يخلط فيه.

إذاً العلة في تحريم الخمر هي الإسكار، وهذه علة وصفها ثابت ومنضبط، فحيثما وجدنا هذه العلة في أي مشروب آخر فإنه يأخذ حكم الخمر؛ لأن علة الأصل -وهو الحكم السابق بتحريم الخمر في القرآن- تعدت إلى الفرع، وهي وصف ثابت منضبط لا يتغير، فمنكرو القياس قالوا: هذه الآية حجة لنا في نقد القياس؛ لأن القياس محض اجتهاد، وقد يخطئ الرجل في تنزيل العلة من الأصل على الفرع ويقول: هذا حكم الله فيخطئ، ولا يجوز لأحد أن يقول: هذا حكم الله بالاجتهاد، فرد عليهم الأئمة المثبتون للقياس بأدلة كثيرة، أتوا مثلاً ببعض الأحاديث التي استخدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم القياس، كما في الحديث الصحيح أن رجلاً أراد أن ينتفي من ولده، حيث التبس عليه أنه أبيض والولد أسود وأمه بيضاء، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا ليس ابني!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس لك إبل؟ قال: بلى.

قال: أليس فيها من أورق؟) يعني: أحياناً يأتي جمل لونه ليس كلون أمه: (قال: نعم.

قال: ومم ذاك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: وهذا لعله نزعه عرق) فمن الممكن أن يكون هذا الولد ينزع لجده، أو لجد جده، فيكون أخذ منه شيئاً من بعيد، فكما أن الجمل الأورق نزعه عرق فكذلك الولد نزعه عرق، فهل هذا إلا القياس؟ هذا هو القياس، حيث عدى العلة وهي اختلاف اللون من اختلاف الجمل عن لون أمه، إلى اختلاف لون الولد عن لون أمه وأبيه، أن هذا لعله نزعه عرق وهذا أيضاً لعله نزعه عرق، ثم نقول: إن الأحكام الشرعية تبنى على الظن الغالب، وليس معنى بناء الحكم على الظن الغالب أن نقول: هذا مراد الله، فهذا شيء وهذا شيء، وإلا فنقول لنفاة القياس: أنتم تفسرون الآية الواحدة بعدة تفسيرات، فهل تستطيع أن تجزم أن أي تفسير منها هو مراد الله؟ لا نستطيع الجزم، وهذا قرآن، فهل يبطل تفسير القرآن؛ ونقول: لا يجوز لنا أن نفسر القرآن وكلام الله عز وجل؛ لأنه قد يكون هذا التفسير ليس بمراد لله تعالى؟ لا، ولا نقول: هذا حكم الله، ولكن نقول: هذا هو حكم الشرع فيما ظهر لنا، وهذا سائغ.

وإذا كانت الأحكام تبنى على الظن الغالب فلا يجوز التمسك بهذه الآية في نفي القياس؛ لأن القياس راجع إلى حكم الشريعة، ألم نقل قبل: إن القياس هو تعدية علة أصل إلى فرع، وهذا الأصل هو كلام الله عز وجل، فإذا حددت العلة ونقلتها بشروطها، فأنا في تعديتي العلة من الأصل إلى الفرع لم أخرج عن حكم الله، ولم أخرج عن كلام الله عز وجل، فالقياس في حقيقته راجع إلى كلام الله عز وجل وإلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015