أحد الجماعة الخطباء في الأوقاف قابلني مرة وهو غضبان، فقلت له: مالك؟ قال: والله يا أخي الواحد ليس له رغبة أن يتكلم، قلت له: لماذا؟ قال: أصرف نصف الراتب في المواصلات، فبماذا أخرج آخر الشهر؟! بعشرة جنيهات!! لا تستحق أن الواحد يتكلم كلمتين، فعندما يعتقد العالم نفسه موظفاً متى يبلغ الحق؟ فالحق يريد من الإنسان أن يحترق، الله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، والآية فيها تقديم وتأخير من جهة المعنى، أي لعلك قاتل نفسك، أي: ستميت نفسك من الأسف عليهم، فنظمها: لعلك باخع نفسك أسفاً على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث.
والدعوة لا تصل إلا بأن يكون الإنسان محتسباً، يدعو الناس إلى الله عز وجل، فالعالم ليس مجرد شخص يعطي حكم الله، ويظل واقفاً ويكتفي بأن يقول للناس: الطريق من هنا، لأن هناك أكثر من طريق في الأمام، فمن المحتمل أن يأخذ طريقاً خطأ، فينادي عليه: يمين، شمال، وراء، أمام، فبعد أن يراه سلك الطريق السليم يستريح، ويحس أنه عمل الذي عليه، هكذا فعل الراهب العالم، لم يقل له: نعم لك توبة ومن يحجب عنك باب التوبة فقط، لأن هذا تشخيص للمرض، لكن أين العلاج؟ فإن الطبيب عندما يقول للمريض: عندك المرض الفلاني ثم يصرفه، لا يكون قد عمل شيئاً يستحق أن يأخذ عليه أجرة حتى يعطي الدواء، لأن المريض لم يأت له إلا ليرفع عنه العلة بإذن الله، فكذلك المفتي، عندما يقول: لك توبة، وماذا بعد ذلك:؟ يذهب للنوم، لا، بل بعد تشخيص الداء ومعرفتنا أن له علاجاً، دله عليه، وهو الخروج من أرضه -لأنها أرض سوء- إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فيعبده معهم.