الإخلاص هو سر وضعه الله عز وجل في القلب، لا يعلمه إلا الله، فهو الذي يجزي به دون غيره، فلذا كان الإخلاص بهذه المنزلة العالية.
ثم هو يختصر لنا العبادات، فقد جاء عن بعض سلفنا -وينسب هذا القول إلى بلال بن رباح رضي الله عنه- قال: (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل) إذاً: الإخلاص مختصر طريق الجنة، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] توضع النعم في كفة والأعمال في كفة.
وقد علمنا علماً أكيداً أيضاً أن أعبد رجل على وجه الأرض وهو الرسول عليه الصلاة والسلام -قال لنا: (إنه لن يدخل أحدكم منكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا) فايئس، من هذا الباب، مهما فعلت، فلا تظن في يوم من الأيام أنك توفي نعم الله عليك، فهذا أعبد رجل، ما رأت البشرية ماشياً على الأرض بقدميه أعبد منه صلى الله عليه وسلم يقول هذه المقالة.
بل أخبرك ما هو مثل ذلك أو أعلى من ذلك: ثبت بأسانيد صحيحة أن الملائكة يوم ينفخ في الصور، تقول: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، والملك إنما خلق ليعبد، لا يلهو ولا يلعب، خلق ليعبد، البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يدخلونه إلى يوم القيامة، سبعون ألف ملك كل يوم! الذي يدخل مرة لا يدخل إلى يوم القيامة من كثرة الملائكة، كلهم يعبدون الله، لا يعرفون الأهواء ولا الشهوات، فإذا قامت فإنهم يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام:91] فمتى توفي؟! إلهامك الشكر على النعم نعمة تحتاج إلى شكر، فشكرك يحتاج إلى شكر، فمتى تؤدي الشكر؟! هدايتك نعمة من أجل النعم تستحق الشكر، فمتى تشكر على الشكر؟ ايئس من هذا الباب.
فإن أهمك أن تنجو غداً فعليك بالإخلاص: (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل).
وهناك حديث رواه الحاكم في المستدرك لا أورده محتجاً به لضعفه؛ إنما أورده لتوضيح المقام فقط، فقد ذكر أن رجلاً كان يعبد الله في جزيرة، فأنبت الله عز وجل له قحط رمان من الصخر، وأخرج له مثل الإصبع ماءً عذباً، فكان يأكل من الرمان، ويشرب من الماء العذب ويصلي، ليس له إلا ذلك، فسأل الله تعالى أن يقبض روحه وهو ساجد، فلبى له رغبته، وقُبض وهو ساجد، وكان عمر هذا الرجل في العبادة ستمائة عام، فلما قبض قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي.
فقال الله له: اعلم أيها العبد أنه لا يظلم عندي اليوم أحد، انصبوا له الميزان، فنصبوا الميزان، ووضعوا نعمة البصر في كفة، وضعوا عبادة ستمائة سنة في كفة فطاشت العبادة، ورجحت نعمة البصر.
أين بقية النعم؟! ما جاء دورها! عبادة ستمائة عام ما وفت بنعمة البصر! قال: خذوه إلى النار، فلما جروه إلى النار جعل يصرخ ويقول: يا رب! بل برحمتك، أدخل الجنة برحمتك! قال: أرجِعُوه، فلما أرجَعُوه، قال: عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك قحط رمان من الصخر؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك الماء العذب من الماء المالح؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من قواك على عبادة ستمائة عام؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: فادخل الجنة برحمتي يا عبدي، كنت نعم العبد! من ذا الذي يوفي؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
وإنما بدأ بنعمة البصر لأنها من أجل النعم على العبد؛ قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، لم أجد له جزاءً إلا الجنة) إنما سماها حبيبة؛ لأنه لا يحب الدنيا إلا بها، وعند الأعمى يستوي الثوب الغالي مع الأسمال البالية ويستوي الدر الثمين مع الخرز المهين؛ فالدنيا إنما تحب بالبصر، لذلك قال: (حبيبتيه) وفي اللفظ الآخر فقال الله تبارك وتعالى في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بكريمتيه) سماها كريمة؛ لأن العبد الذي يحتاج إلى الناس ذليل، ولا يستطيع أن يعبر الشارع إلا إذا نادى، فهي تكرمه، ولا تحوجه إلى أحد، فلعظم البلاء بها قال له ذلك.
إذاً: الذي ينجينا من هذا المأزق: الإخلاص (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل).