إن تحقيق الإخلاص سهل، لكن علماء السلوك من الصوفية صعبوه، حتى أن من يقرأ كلامهم عن الإخلاص ييئس أن يكون مخلصاً يوماً من الأيام! وديننا هو دين الحنيفية السمحة، فكيف يعجز المرء عن تحقيق الشرط الذي لا يقبل العمل إلا به؟! لقد عسر علماء الصوفية الإخلاص.
نقل السهروردي في عوارف المعارف عن بعض رءوسهم أنه قال: إذا شهدت في إخلاصك الإخلاص فإن إخلاصك يحتاج إلى إخلاص! يعني: إذا عملت لله عز وجل، وكنت بقلبك تشعر أن هذا العمل لله حبط الإخلاص، فإخلاصك هذا إذن يحتاج إلى إخلاص.
مع أن الإخلاص شيء يشعر به المرء من نفسه، فهو يعلم متى يكون مقبلاً على الله ليس لأحد في عمله شيء، لكن هذا الصوفي يشكك حتى في البدهيات! ونقلوا عن رويم بن أحمد -وهو أحد رءوسهم كما في تاريخ بغداد للخطيب - قال: (إخلاص المريدين رياء الموحدين) يريد أن يقول: إن أجل عبادة المريدين لعب عيال عند المقربين! والدين أيسر بكثير من ذلك، وإن أدنى رجل في الأرض لو أخلص قبل منه ذلك، وأعلى رجل في الأرض لو أشرك رد عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين (أي: له أسمال بالية، إذا رأيته سقط من عينيك وازدريته) مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) سبحان من لا يعرف أقدار خلقه إلا هو! تزدريه عينك، ويسقط من نظرك، ولو أقسم على الله عز وجل أن يقلب بلداً قلبها، لكرامته عليه.
أدنى رجل لو أخلص لله قبل الله منه، وأعظم رجل لو أشرك رد عليه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
وذكر الله عز وجل في سورة الأنعام ثمانية عشر نبياً وزكاهم وأثنى عليهم، ثم ذيل هذه التزكية بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] لا محاباة، الرجل الكبير إذا أشرك بالله عز وجل أو لم يخلص رد عليه، فكيف يقول: (إخلاص المريدين رياء الموحدين)؟! مهما كان قصده بالعبارة، أو كما يقول الآخر: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) متى تنوب السيئة عن الحسنة؟ وهكذا عسر أولئك الصوفية سبيل الإخلاص: (إذا شهدت في إخلاصك الإخلاص فإن إخلاصك يحتاج إلى إخلاص).
تعرفون بم نرد هذه الدعوى؟ نردها بحديث رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خرج ثلاثة ممن كانوا قبلكم فآواهم المبيت إلى غار، فلما دخلوا باب الغار نزلت صخرة من الجبل فسدت عليهم الباب، فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر، ونزل الحجر، ولا حيلة لكم إلا بالله -وأنا أسرد القصة أذكر زيادات أخرى قد رويت خارج الصحيحين- ولا ينجيكم إلا صالح أعمالكم، فادعوا الله بها.
فقال الأول: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أُرح عليهما، فلما رجعت وجدتهما قد ناما، فكرهت أن أوقظهما، فوقفت بجانبهما والإناء على يدي، وأنا واقف والصبية يتضاغون تحت قدمي، وأنا أكره أن يشرب قبلهما أحد، حتى برق الفجر فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثاني: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأصابتها سنة -أي: مجاعة وحاجة- فجاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ثم جاءتني تطلب مالاً فراودتها عن نفسها فرضيت، فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت لها المال، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجراء استأجرتهم على فرق من أرز، فأبى واحد منهم أن يأخذ أجره وتركه، فثمرته له -يعني: نماه له- فجاءني يطلب أجره، فقلت له: كل الذي ترى هو لك.
فقال: يا عبد الله! أعطني حقي ولا تستهزئ بي.
فقلت له: لا أستهزئ بك.
فساق النعم كلها أمامه ولم يترك منها شيئاً، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون).
قد علم هؤلاء صالح أعمالهم، فإنهم لن يكذبوا على الله وهم مضطرون، بل لو كانوا كفرة لأخلصوا، والظاهر أنهم كانوا من المؤمنين؛ لذلك ساق النبي صلى الله عليه وسلم لنا خبرهم مساق المدح لفعلهم، فالمؤمن يعرف من نفسه إذا كان قد أخلص أم لا، وقد قال بعض السلف: إني فعلت ذنباً منذ أربعين سنة أنتظر عقوبته.
كيف لا يعرف المرء صالح عمله من فاسده إلا إذا كان مجنوناً لا يعقل، فتحقيق الإخلاص سهل، والله عز وجل لا يصعب عليك ما جعله شرطاً في قبول العمل، لو كان الإخلاص صعباً كما يقول الصوفية لما استطاع أحد أن يخلص.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يخلص نياتنا، وأن يتقبل منا سائر أعمالنا أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.